الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

جابر عصفور "2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وإذ آتى إلى حدائق التجديد عند جابر عصفور فإننى أعترف بصعوبة المرتقى، فالكلمات متماسكة، والعبارات مترابطة بحيث أكتشف أن الانتقاء صعب، والاختصار أصعب ومع ذلك سأحاول.
وفى أولى صفحات كتابه الموسوعة «للتنوير والدولة المدنية» نجد ما أسماه «مفتتح» ونمضى مع الأسطر الأولى «مبدآن ورثت بعض مكوناتهما من رواد الفكر المصرى الحديث، يتصل هذان المبدآن بفكر التنوير والدولة المدنية فى آن.
أما التنوير فقد سعيت إلى تأصيل تأويل عربى للتنوير الأوروبى الذى رأيت له جذورًا وأصولًا فى تراثنا الإسلامى والعقلاني.. ولقد سبق لى أن قلت منذ سنوات غير قليلة فى كتابى «أنوار العقل (١٩٩٦) «إن التنوير يقوم على أساس عقلانى لا معنى له بعيدًا عنه، وأن المكانة المتميزة للعقل فى تراثنا الفلسفى العربى الأساس النظرى لأى فهم للتنوير»، ثم يقول «ويقينى أن ميراثنا العقلانى لا يجعلنا نشعر بغربة حين نتوقف عند الأفكار التى أنتجتها حركة التنوير الأوروبية فى القرن ١٨، ويظل القاسم المشترك الذى يصل بين تراثنا وغيره، أصل ما انتقل من تراثنا إلى التراث الأوروبى الذى أفاد من تراثنا العقلاني، وذلك منذ أن كانت «الرشدوية» (أى أفكار ابن رشد) إحدى بدايات النهضة الأوروبية وازدهار تياراتها العقلانية» (ص٧) ويقول «إن المثقف العربى فى سياق هذه العلاقة المتبادلة بين تراثه والتراث الإنسانى السابق عليه أو السابق علينا، لا يشعر بدهشة أو اغتراب حين يقرأ ما كتبه كانت حين يقول «التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذى ارتكبه فى حق نفسه، وهو عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر» ثم هو يؤكد أن مصدر هذا القصور «ليس الافتقار إلى التعقل بل العزم والشجاعة اللذين يحفزانه على استخدام العقل بغير توجيه من إنسان آخر، لتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك»، هذا هو الشعار الذى تمسك به جابر عصفور فى كل كتاباته وتصرفاته ومواقفه حتى عندما يصبح استخدام العقل تصادمًا مع من لا يجرؤ أى مثقف على التصادم معه.
ثم يذكرنا جابر عصفور بما جعله الأستاذ الإمام محمد عبده من أصول للإسلام ومنها «النظر العقلى لتحصيل الإيمان، وتقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، وقلب السلطة الدينية ورفضها من أساسها، فلقد هدم الإسلام بناء هذه السلطة، ومحا أثرها فليس فى الإسلام ما يسمى بالسلطة الدينية»، ثم يستعيد قول الأستاذ الإمام أيضا «الإسلام لم يدع لأحد بعد الله ورسوله سلطانًا على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه. 
وأن الرسول كان مبلغًا ومذكرًا، لا مهيمنًا ولا مسيطرًا، ولم يجعل لأحد من أهله سلطة أن يحل، ولا أن يربط لا فى الأرض ولا فى السماء». 
وبعدها يعود جابر عصفور ليؤكد «إذا كانت العقلانية هى أصل التنوير فإن الدولة المدنية هى الوجه الآخر للعملة نفسها، أو هى اللازمة المنطقية التى تؤسس للعقلانية حضورًا سياسيًا، ويتجسد بها وينطلق منها فى آن واحد. 
وبهذا يفسر لنا سر اختياره لعنوان الكتاب قائلًا «فأنا أجمع بين التنوير والدولة المدنية ليس فى عنوان هذا الكتاب فحسب، وإنما فى تصوراتى عن العالم، ومنها تصوراتى عن النقد الأدبى الذى أمارسه تنظيرًا وتطبيقًا».
ثم يعود ليوضح «لقد انتهى بى هذا التلازم إلى الإيمان بمبادئ أساسية تنير الطريق إلى المستقبل الواعد لهذه الأمة الحزينة التى تمضى مرغمة بفضل حكامها وحلفائهم الذين يتمسحون بالدين إلى مهاد مخيفة من مستقبل مظلم» ثم «وهذه المبادئ هى حرية الاعتقاد والفكر والتعبير والإعلان عن موقف الإنسان من كل ما يقع حوله، ورفضه لكل أشكال قمع الحرية المقترنة بالظلم والاستبداد الذى يمكن أن يتحالف فيه التسلط السياسى مع التعصب الدينى إلى درجة تصل بالطرفين إلى حال من الاتحاد الخطر على مستقبل الأمة» (ص٩).