الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تاج الفضيحة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حفلت الأدبيات العربية فى العقود الثلاثة الماضية بتناول موضوعات وظواهر مسكوت عنها، على رأسها «قضايا الجسد»، وهو ما يمكن رصده وتتبعه من خلال الإبداعات الشعرية والقصصية التى عظَّمت من الاحتفاء بالجنس كمعادل حيوى للجسد، الأمر الذى أسفر عن وجهات نظر متنوعة حول «شرعية» الحضور المكثف للجسد فى تلك النصوص من ناحية، والقيمة الأدبية له من ناحية أخرى، فهناك من صفقوا لذلك الحضور ملء كفوفهم ووصفوه بالفتح فى عالم الكتابة، وهناك من رفضوه تماما لاعتبارات أخلاقية؛ إذ اعتبروه هدمًا للقيم. وفيما تفرغ آخرون لاتهام مبدعى تلك النصوص بالتسطيح تارة والخواء والمراهقة الأدبية تارة أخرى، نظرت قلة من النقاد للمسألة من زاوية أكثر اتساعا فى خطوة نحو قراءة موضوعية لا تفصل تلك النصوص عن المناخ الذى أدى إلى إفرازها؛ فما تمر به نصوص الأجيال الجديدة من احتفاء بالجنس، يحدث فى ظل إهمال متعمد للجسد كقضية اجتماعية وفلسفية فى الثقافة العربية، ودون النظر فى أصل الأسباب التى عظمت من ذلك الحضور بل وجعلته طاغيا فى السنوات القليلة الماضية.
وللوقوف على تلك القضية يجدر بنا الوقوف أولاً على صورة الجسد فى الثقافة العربية بشكل عام، وهى لا شك صورة مزدوجة؛ تظهر تجلياتها الإيجابية فى الثقافة الشفاهية "الشعبية"، بينما تقف منها الثقافة الرسمية "المؤسساتية" موقف الحذر، إذ تنظر للجسد باعتباره عورة، فهو فى عرفها المعادل الموضوعى للمرأة التى رسخت عند «سادة المجتمع» باعتبارها تاج الفضيحة؛ منبع الغريزة والإغواء والخطأ، ومن ثم اعتقدوا أن الفضيلة لن تتحقق إلا بالخلاص من تلك العورة، فصار «وأد المرأة» على المستوى المادى عند العرب الأقدمين متسيدًا الثقافة الرسمية.
ورغم مرور أكثر من 14 قرنا على تحريم وأد البنات، إلا أن الترددات المعنوية للوأد مازالت تحتل مساحة عريضة فى الثقافة العربية، وتسكن ذهنية كثير من العرب المحدثين ممن لم يتجاوزا بعد مرحلة «الوعى الطبيعى» الذى هو «معرفة وجهالة» لدى الإنسان البدائي؛ إذ يرى ولكنه لا يرى نفسه، ويعرف لكنه لا يعرف أن الجسم هو ذلك الاكتشاف العظيم الذى جاء تثبيتًا للهوية الشخصية التى كانت قبل اكتشافه غامضة ومشوشة وغير محددة، كما لا يفرق بين الجسم والروح؛ الأصل والصورة، ولا يعى أن تلك الثنائية هى ذاتها معيار من بين المعايير العقلية التى تستعصى على فهم الإنسان البدائى. فمن خلال إدراك الإنسان للاختلاف بينه وبين جسمه أو بينه كأصل «أنا» وبينه كصورة «آخر» ينبثق الوعى بالذات أو «الهوية» الشخصية.
ولا شك أن ثنائية «الروح والجسد» مفقودة فى الثقافة العربية؛ إذ دأبت المؤسسات الرسمية (سياسية واجتماعية وثقافية) على اغتيال الجسد بتحقيره ومصادرته، بل وتحطيم الصورة الصحية له، فقد كانت نظرتها له على طول الخط ملتبسة ومشوشة، إذ تعتبره فى منزلة أدنى، مقابل رفعة منازل الروح، وهو ما رسَّخ لمصادرته ماديًا ومعنويًا ودلالياً وفلسفيا.
ومن ثم جاء احتفاء الكتابات الجديدة بالجنس لتصب، بشكل أو بآخر، لعناتها وثورة غضبها على الثقافة الرسمية التى ما تزال تصادر الجسد بجميع صوره الديناميكية؛ محركاته وتفاعلاته ومعاملاته، وعلى رأسها الجنس؛ المعامل الموضوعى للتمرد على الاستاتيكا أو السكون.
هذا لا يلغى أن حضور الجنس فى الكتابات الجديدة يحتاج إلى مراجعة لأنه يتحقق فى جانبه الأكبر بشكل عشوائى، إذ يتخذ بعضه منحى الترويح والتنفيس عن الكبت والغضب والعنف، بينما يجسد بعضه الآخر التمرد فى أعنف صوره، إلا أن تناول ذلك يفتقر فى أكثره إلى الفنية، فى حين قليلة هى الكتابات التى يتحقق فيها حضور الجنس، كقضية إنسانية، برؤية فنية تعمل على تحريك اليقين السائد.
وبعيدًا عن التقييم النقدى أرى أن ما يحدث على ساحة الإبداع الأدبى الحديث فى ذلك السياق قد يحرك المياه الراكدة تجاه كل القضايا المسكوت عنها فى المجتمعات العربية، فمن المهم خلق حوار حول هذه الكتابات حتى لو لم تحقق بعدُ التأثير المأمول منها، فهى إذا ما انتظمت وتواصلت قد تنجح فى ترميم صورة الجسد داخل (النص/ المجتمع)، وهى خطوة نحو تفعيل الجسد فى الثقافة العربية، بكل ما يحمل من دلالات حضارية.
elmerekhy@hotmail.com