الأحد 16 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

تأملات في أحوال التعليم 2

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كانت هزيمة 67 نقطة البداية لتغيرات عميقة في بنية المجتمع المصري. و أحوال التعليم جزء من نسيج أحوال الوطن الذي اجتاحه إعصار 67، حيث شهدت يداية السبعينيات إثر هزيمة 1967، موجة كثيفة من هجرة أعداد كبيرة من المهنيين والعمال من أبناء ثورة يوليو إلي دول الخليج البترولية، وتزايدت كثافة تلك الموجات مع السبعينيات، والتقى هؤلاء بجيل سبقهم إلي هناك منذ منتصف الخمسينيات فرارا من العسف الناصري بجماعة الإخوان المسلمين, و اندمج الجميع في المناخ الفكري و القيمي و الاجتماعي السائد هناك، و لم يكن غريبًا أن يلقي ذلك المناخ هوى لديهم، إنهم قادمون من وطن مهزوم لا يعرفون سببا عقلانيا لهزيمته. لم تقدم لهم أجهزة الاعلام القومية الاشتراكية تفسيرا مقنعا لما حدث. و أصبحوا مهيئين لانتشار التفسير الديني للهزيمة. وكان من الطبيعي تمامًا أن يترك المناخ الفكري السائد في هذه الدول بصماته عليهم ليعودوا إلي أوطانهم وقد تشبعوا به.
من تلك البصمات، الإيمان بأن تدهور واقع المسلمين يرجع أساسا إلي ابتعادهم عن صحيح الدين واقترابهم من العلمانية، وكان من تلك البصمات أيضا أن العنف هو السبيل الأمثل لسيادة الحق، وثمة بصمة ثالثة لعلها الأخطر و الألصق بموضوعنا، لقد امتص هؤلاء الأبناء منظومة قيمية يغلب فيها الشكل علي المضمون، والهدف علي الوسيلة، والمظهر علي الجوهر، والشعائر على المعاملات، وعاد الأبناء بمدخراتهم وقيمهم ليصبحوا بمثابة الضمير الجديد للأمة.
ولو أعدنا النظر فيما أشرنا إليه من مشكلات تعتور أحوال التعليم في بلادنا لاتضحت الصورة، في ظل هذا المناخ القيمي يصبح من الطبيعي تماما أن تكون "الشهادة" هي الهدف بصرف النظر عن نوعية المضمون، و يصبح "الغش" و سيلة مشروعة لتحقيق ذلك "الهدف" خاصة إذا ما اعتبرناه نوعا من "المساندة" أو "التكافل"، و يصبح التمايز الحاد بين "مصروفات" تعليم العامة و تعليم الخاصة، مع تدهور المضمون الحقيقي لكل منهما، شكل مقبول من تفاوت الأرزاق، ويصبح الفصل بين "الجهد المبذول في العمل" و "العائد المادي" أمر لا يثير اندهاشا، و يصبح "العنف" بكافة أشكاله هو السبيل الأمثل للمكانة و النفوذ.
ما الحل إذن؟ ما العلاج؟ أستأذنكم في استعارة النموذج الطبي، لا سبيل لعلاج المريض إلا عبر تشخيص دقيق للمرض. تشخيص يتجاوز الأعراض الظاهرة التي تكون عادة ملحة مؤلمة, ليصل إلي السبب الذي يكون عادة خافيا صامتا، و بدون ذلك يظل المريض مريضًا حتي لو اختفت بعض الأعراض.
لقد كان من نتائج كارثة يونيو 67 أن أصيب جهاز المناعة لدي الشعب المصري بوهن شديد. و من خلال ذلك الوهن تسلل المرض لتنتشر أعراضه فيما بعد في أحوال الحياة المصرية كلها و ليس في أحوال التعليم فحسب. و من ثم فإن محاولات إصلاح التعليم مهما كان الجهد المبذول في تحقبقها و هو جهد هائل بالفعل, تظل تلك الجهود قاصرة طالما تركزت علي مجموعة الأعراض التي تعاني منها الحالة التعليمية, دون أن تتسع المعالجة لتشمل الأعراض التي تعاني منها الأحوال المصرية, و لتتجاوز هذه الأعراض الظاهرة سعيًا لتحديد سبب العلة و التصدي له.
خلاصة القول
لا أظن أن ثمة وصفة جاهزة لعلاج أحوال التعليم في بلادنا, ليس العلاج مجرد تغيير في المناهج و المقررات، أو تعديل لنظم الامتحانات, أو تدريبات متقدمة للمعلمين, أو زيادة في أعداد المدارس. كل تلك الأمور جيدة و مطلوبة و تحدث بالفعل. يكمن العلاج في استعادة كفاءة جهاز المناعة المصري بحيث يستطيع التخلص من الشوائب التي تسللت إليه و علقت به. و هو أمر ليس بالمستحيل إذا ما صح العزم.
و إني لموقن أن الشفاء قادم لا محالة، و لعل التقلصات الاجتماعية العنيفة التي تشهدها المنطقة العربية، و خاصة منطقة الخليج, قد تكون نذرِا، و لا أقول بشائر تنبئ بالشفاء القادم.