الأحد 16 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

عبد الوهاب.. أوراق ممنوعة!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عندما كتب الموسيقار محمد عبد الوهاب "مذكراته"، منح نسخة منها لشريكه في شركة "صوت الفن" مجدي العمروسي، مع وصية بألا تنشر هذه المذكرات إلا بعد رحيله عن الحياة، وبعد ساعات من طرح المذكرات في كتاب؛ بدأت الصحف والمجلات تتناول تفاصيل أزمة عائلية "عنيفة" نشبت في بيت "عبد الوهاب"، وتم سحب "المذكرات" من المكتبات، ثم ظهرت من جديد بعد أن تم تهذيبها وتمزيق صفحات اعترافات "الأستاذ" العاطفية.
في حوار مع الفنانة الكبيرة مديحة يسري التي غنى لها عبد الوهاب "بلاش تبوسني في عينيه.. البوسة في العين تفرق" في أول مشهد سينمائي عبرت به إلى عالم النجومية؛ سألتها بصراحة شديدة: ألم تخشي من المقابلة الأولى مع الموسيقار محمد عبد الوهاب في مكتبه، وهو المشهور في قاهرة "الثلاثينيات" بغزواته النسائية، وأنت الفتاة البريئة الساذجة ابنة الثامنة عشرة؟
أذكر أنها ردت بعنف "شديد"؛ مدافعة عنه قبل أن تبرئ نفسها قائلة: بعد ارتباطي ـ مع أستاذي محمد عبد الوهاب ـ بصداقة عائلية، سواء بسبب صداقتي لزوجته السيدة إقبال ماضي، أو صداقته هو لأزواجي محمد أمين وأحمد سالم ومحمد فوزي، كثيرًا ما شهدت بعيني أحداثًا ما تخيلتها في العالم السري للنجوم، كيف كان هدفًا لشباك نساء الطبقة الراقية، وكيف كانت تتم مطاردته في الحفلات، تتسابق الجميلات لتقديم الطعام له، وإذا ذهب لغسل يديه يرفعن ذيول أثوابهن ليجفف فيها يديه، وكيف كنّا نرتب له خطط الهروب من الأبواب الخلفية من الحفلات بسبب حصار معجباته، هذا النوع من الرجال الذي لا يعاني الحرمان، ولا تخشى أي سيدة على نفسها منه؛ لأنه كان رجلًا ينطبق عليه المثل الشعبي "عينه مليانة".
عبد الوهاب كان زعيم أكبر حزب يضم النساء في مصر في مواجهة حزب أم كلثوم الذي يضم الرجال! نجحت مديحة يسري في شدي إلى منطقة جاذبية عبد الوهاب، لدرجة أنني تفرغت سنوات طويلة.. أفتش وراءه، أستمع إلى حكايات شفوية عنه من نجوم عاصروه، أو صحفيين كانوا من أصدقائه، وأشهرهم الكاتب الصحفي محمود عوض والكاتب محمد تبارك، الذي ارتبط مع عبد الوهاب بعلاقة صداقة، لكن العبقري مصطفي أمين نجح في انتزاع اعترافات عبد الوهاب العاطفية وضمها إلى صفحات كتابه "مسائل شخصية"، ورغم تضمن الاعترافات تفاصيل ساخنة تم تمريرها بعيدًا عن الرقابة العائلية لـ"موسيقار الأجيال"، يقول عبد الوهاب:
"أول مرة خفق قلبي للحب كان عمري تسع سنوات! كان حبًا خطيرًا من أخطر ألوان الحب التي هزت حياتي، كانت سيدة عمرها 25 عامًا! أكبر مني بتسعة عشرَ عامًا، كانت تسكن بجوارنا في حارة الشعراني بحي باب الشعرية ـ القاهرة، وكان زوجها كاتب وقف المسجد، كانت اسمها خديجة، سيدة رائعة الجمال، طويلة سمراء، عيناها واسعتان، لا أزال أذكر أسنانها البيضاء، ابتسامتها الحلوة المنورة، عندما تضحك كنت أرى نورًا ينبعث من شفتيها من شدة بياض أسنانها وجمالها، وكانت تحب صوتي، وتطلب مني أن أغني لها "عذبيني فمهجتي في يديك"، فكانت تحتضني وتنظر إلى عيني نظرة ساحرة، فأذوب بين يديها وأحس بمتعة وهناء غريبين، وإذا بزوجها يغار مني ويطردني ويمنعني من دخول البيت ويضربني، ولم يكتفِ الزوج بذلك؛ فأبلغ شقيقي الشيخ حسن فانهال عليَّ ضربًا، ولكن هذا الضرب لم يشفني من الحب.. بقيت أحبها ولا ألقاها".
ويواصل عبد الوهاب اعترافاته لمصطفى أمين قائلًا:
"الحب الثاني في حياتي كان لفتاة من أسرة كبيرة، عرفتها في بيت أسرتها، كان حبًا مجنونًا! كنا لا نتكلم وإنما نتبادل النظرات، لم أجرؤ أن ألمس يدها، لم أجرؤ أن أقول لها "أحبك"، لم أكن أستطيع أن أجلس إلى جوارها، أو أنفرد بها، وكانت من أسرة أحمد شوقي "أمير الشعراء"، وكانت مهابة شوقي وعظمته تقف بيني وبينها، وكان شوقي يحبها ويدللها، ولم أجرؤ أن أطلب يدها منه، كان شوقي بالنسبة لي ملكًا، ولم يخطر ببالي أن أتزوج ابنة الملك!".
يتابع:
"ومات شوقي، ولم أعرف نبأ وفاته إلا في القطار الذي كان يحملني من الإسكندرية إلى القاهرة، ونزلت من القطار وذهبت إلى بيت شوقي، فوجدت الدنيا مقلوبة، ودخلت البيت من باب المطبخ.. وما كدت أخطو بعض خطوات داخل البيت حتى رأيت الفتاة التي أحبها تبكي، وما أن رأتني حتى عانقتني وقبلتني، كانت مفاجأة أذهلتني، أن أقبل حبيبتي يوم وفاة رب نعمتي، كان موقفًا خطيرًا ودقيقًا، وتمالكت نفسي عندما اجتمع أسوأ يوم في حياتي بأسعد يوم في حياتي في لحظة واحدة! وأردت أن أبتعد عنها فقالت لي: (اتركني أقبلك لأن شوقي كان يحبك)".
يستطرد:
"وانقطعت عن زيارة البيت، وتزوجت الفتاة بابن رئيس الوزراء، وإذا برئيس الوزراء يدعوني إلى الفرح لأغني فيه، وذهبت وغنيت في زفاف الفتاة التي تمنيت أن تكون زوجتي، كان قلبي يتمزق وأنا أغني لها، وكان أكثر ما يؤلمني أنني أحاول أن أتظاهر بالفرح في ليلة مصرعي، وأتظاهر بالضحك وقلبي يبكي".
ويواصل مصطفى أمين اصطياده للاعترافات الثمينة من عبد الوهاب، الذي حكى أنه كاد أن يتعرض للاغتيال في سينما "مترو" في وسط القاهرة، بسبب تحريض إحدى عشيقاته التي تزوجها سرًا لمدة 12 عامًا.. يقول عبد الوهاب:
"كنت في سينما "مترو" بالقاهرة أشاهد فيلمًا، وفي أثناء الفيلم أقبل رجل لا أعرفه وقال لي: أنا عايزك، ودهشت وسألت عن السبب؛ فلم يقل شيئًا، وإنما قال لي: تعالَ معي! وتبعته ودخل بي إلى مكتب مدير السينما وأغلق الباب، وعرفت أنه من رجال البوليس، وقال لي: لقد جاءنا بلاغ أن بضعة أشخاص اتفقوا على قتلك، وأنهم يتربصون بك ليقتلوك بـ"الشوم والسكاكين" على باب السينما، وطلبوا مني أن أخرج من الباب الخلفي حتى أنجوا من القتلة، واستطاع البوليس أن يقبض على واحد منهم؛ فاعترف بأن زوجتي "السرية" هي التي حرضتهم على اغتيالي!".
"بدأت أشعر بالقلق وبالخوف على حياتي؛ إذ كان من الممكن أن أقتل أمام سينما "مترو"؛ فإنه من الممكن قتلي في أثناء ترددي علي قصرها وقررت أن أطلقها".
في طرقات مبنى الإذاعة والتليفزيون، التقيت مهندس الصوت الشهير زكريا عامر يجري مفزوعًا، نحو استديو "46"، بحكم العلاقة الصحفية التي تربطنا هرولت خلفه لأعرف السبب الذي أتى به للمبنى في هذا الجو العاصف الذي تعيشه القاهرة منذ الصباح، ولماذا يجري، ربما أخرج من ورائه "بقصة صحفية" لم يجعلني أتكلم وبدأ هو الحوار: "سيبني دلوقتي عبد الوهاب جاي الاستديو..".
تركته وأنا لا أفهم شيئًا، عبد الوهاب يخرج من بيته في هذا الجو العاصف والأتربة المخلوطة بالأمطار؟! عبد الوهاب الذي يخشى البرد والحر ويتكلم مع زوجته السيدة نهلة القدسي عبر التليفون إذا أصيبت بدور إنفلونزا!! يخرج من بيته في الزمالك ويأتي للإذاعة!!! دقائق قليلة وانفتح باب استديو "46" إذاعة، ودخل عبد الوهاب ممسكًا بيد مجدي العمروسي، مرتديًا "بالطو" يغطي وجهه بالكامل بشال، بمجرد أن دخل حكي لي زكريا عامر:
"عيني وقعت على ساعة الاستديو؛ فوجدتها تشير إلى الخامسة بالضبط موعد حجز الاستديو.. تقدمت نحوه.. قائلًا له: "أستاذ عندي سؤال مهم.. ممكن معرفش أشتغل لو لم ترد عليه.. عبد الوهاب ينزل من بيته في مثل هذه الأجواء الترابية؟! دا أنت بتخاف من الهواء الطاير، وبصراحة متقوليش الالتزام والقدوة.. واللي حنعمله النهارده نعمله بكره الأسبوع الجاي.. أنت مين يقدر يحاسبك علي التأخير؟!!".
كان زكريا عامر يتكلم وعبد الوهاب ينصت له باهتمام شديد ثم قال له إجابة جعلت قلبي ينتفض:
"أكل العيش.. يا زكريا.. اللي تعب في شبابه وكافح وراء لقمة عيشه.. يعرف قيمتها حتى لو بقى في مكانتي ويحافظ عليها..".
ملحوظة: في هذا اليوم كان عمر عبد الوهاب مختلفًا عليه 90 عاما أو 91 أو 94؛ لأنه كان يحمل ثلاثة جوازات سفر بتواريخ ميلاد مختلفة.
المرة التي شاهدت فيها عبد الوهاب بنفسي؛ كانت أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون، وكانت معه ابنته، ووقفت أشاهده من بعيد وأتأمل أناقته واهتمامه بمظهره، في هذه الأثناء اقتحمه متسول وهو يستعد لدخول سيارته، ابنة الأستاذ "إش إش" أعطت للمتسول عشرين جنيهًا، الذي على ما يبدو طمع، فإذا كانت ابنة "الأستاذ" أعطته عشرين جنيهًا، فماذا سيعطيه "الأستاذ"، فاقترب أكثر من زجاج السيارة يطلب الحسنة من عبد الوهاب الذي أخرج من جيبه 10 قروش وأعطاها له؛ وهنا سمعت أكثر حوار ساخر في حياتي والمتسول يقول له:
"يا راجل.. بنتك تديني عشرين جنيه وأنت عشرة صاغ..".
رد عليه الأستاذ:
"هي بنت عبد الوهاب مولودة في الزمالك.. وأنا ابن رجل فقير مولود في باب الشعرية".
وأنا أردد هذه الحكاية أمام الأستاذ محمد تبارك على أساس أنها أكبر دليل علي صحة ما كان يطلق على عبد الوهاب عن أنه "بخيل" قال لي:
"عبد الوهاب لم يكن بخيلًا، ولكن تستطيع أن تطلق عليه وصفًا أدق "حريصًا"، يتعامل مع المال من خلال عبارة سيدنا علي بن أبي طالب "المال في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة"، ولكن دعني أحكي لك أحد المقالب "الوهابية" خفيفة الظل المرتبطة بالمال.. وقال الأستاذ تبارك:
"أذكر أنني كنت معه في باريس في رحلته الصيفية سنويًا، وفي أثناء جلوسنا، جاء صاحب الفندق المقيم فيه عبد الوهاب وكان ثريًا عربيًا واقترب منه وقال للأستاذ: أعرف أنك صديق لفريد الأطرش وأنا أعشق فريد الأطرش وأتمنى أن أراه وجهًا لوجه، وعرفت أنه موجود في باريس، ممكن يا أستاذ عبد الوهاب ترتب له عزومة على حساب الفندق ويأتي هو ومن معه من أصدقائه كما يريد، ذهب الرجل وفوجئت بالأستاذ يوجه الدعوة على العشاء لفريد وأصدقائه على أساس أنه صاحب العزومة وليس صاحب الفندق، وأتى فريد.. وكانت سهرة للصباح.. دفع صاحب الفندق دم قلبه، وعاش فريد بعدها سنوات يحكي عن كرم وشهامة أخلاق عبد الوهاب الذي أكرمه في باريس، ومات فريد وهو لا يعلم أنه الذي عزم عبد الوهاب على العشاء عندما قبل الدعوة".
حكى لي أستاذي لويس جريس أشهر فرسان مجلة "صباح الخير" في عصرها الذهبي: بعد صدور مجلة "صباح الخير" التي كانت تضع شعارًا "مجلة القلوب الشابة والعقول المتحررة"، حدث انقلاب في عالم الصحافة المصرية، وأصبحت "صباح الخير" المجلة الأولى التي يتخاطفها الشباب في الجامعات والمدارس الثانوية، لدرجة أنها سحبت البساط في التوزيع من مجلات عريقة على الساحة، ما دفع عبد الوهاب للاتصال، برئيس تحرير المجلة، أصغر رئيس تحرير في تاريخ الصحافة المصرية أحمد بهاء الدين ـ 21 عامًا، وطلب منه أن يزوره في بيته للغداء معه، في البداية لم يصدق بهاء أن الذي يتكلم معه عبد الوهاب، وتخيل نفسه، ضحية مقالب الزملاء في المجلة، بعد أن تأكد بهاء أن الموعد حقيقي ذهب للقاء الأستاذ، على مائدة الطعام؛ فوجئ بهاء بعبد الوهاب يطلب منه أن يكون هذا الموعد أسبوعيًا حتى يعلمه "بهاء" اللغة الشابة التي تكتب بها صفحات "صباح الخير"، حتى ينشط قاموس مفرداته اللغوية، ويحرر نفسه من سيطرة لغة شوقي والعقاد والمنفلوطي وطه حسين وأحمد لطفي السيد، حتى يواكب الأجيال الشابة على الساحة ويقرأ بطريقتهم ويفكر كما يفكرون ويندمج في مشكلاتهم وقضاياهم اليومية.. يعيش أحلامهم وأزماتهم، هذه القصة من لويس جريس كانت إجابة عن سؤالي له: كيف بقي عبد الوهاب موسيقار الأجيال؟ وسيبقى!