رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة ستار

في ذكرى رحيلها.. "أم كلثوم التي لا يعرفها أحد" قصة للكاتب محمود عوض

 أم كلثوم التي لا
" أم كلثوم التي لا يعرفها أحد" قصة للكاتب محمود عوض
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ولد محمود عوض في ١٩٤٢م في مدينة طلخا بمحافظة الدقهلية، وكاد يتسبب شغفه بالقراءة منذ صغره في إنهاء دراسته برسوبه فيها، لولا قطعه عهدا لأبيه بأن يصير تلميذا متفوقا، وقد حافظ على هذا العهد لأبيه، حيث تلقى خطابا أرسله كمال الدين حسين، وزير التعليم آنذاك، لوالده يضم شيكا بمبلغ ٢٥ جنيها لابنه المتفوق، سلمه الوالد إلى «محمود»، ورحل بعدها بيومين مطمئنا على مصير ابنه، وقد اختار له الروائى الراحل إحسان عبدالقدوس لقب عندليب الصحافة المصرية، مراهنا عليه بأن يكون واحدا من أبرز كتاب الستينيات، وهو الأمر الذي ظهر عندما تأخر أنيس منصور عن إرسال مقاله اليومى، الذي يُنشر في الصفحة الأخيرة من «أخبار اليوم»، وهنا قرر عبد القدوس -وهو رئيس تحرير المؤسسة العريقة آنذاك- تكليف هذا الصحفى الشاب بكتابة الصفحة الأخيرة وحده، وهو الأمر الذي كان عقابا لـ«منصور»، والذي تسبب تأخره المتكرر في عدم إرسال الجريدة إلى المطبعة في وقتها المحدد، فكتب مقالا بديعا عن أم كلثوم أثار حفيظة وغيظ كثيرين من أقرانه، فصار أنيس منصور يرسل مقاله قبل موعده بـثلاثة أيام، وأوكل إليه إحسان كتابة صفحة أسبوعية في «أخبار اليوم» بعنوان «شخصيات»، يُحاور فيها رموز الفكر والثقافة، والسياسة، والدين، والفن في مصر، بطريقته الخاصة وبشكل لم يعهدوه من قبل.
وعن هذه التجربة يحكى عوض قائلا في كتابه «شخصيات»: «كان إحسان كبيرا في ثقته، فنانا في أفكاره، رقيقا في لهجته، إنه لا يطلب، ولكن يقترح، لا يفرض، ولكن يثير الحماس، لا يقرر، ولكن يوحى، هذا رجل فنان يريد منك أن تسمو وتكتشف»، خلال مشوار عوض الفنى اقترب من نجوم الفن والسينما بشكل أثار حوله الكثير من التساؤلات، حتى إن هؤلاء النجوم كانوا يتكالبون عليه، ليكتب عنهم، وعندما طلبت أم كلثوم من مصطفى أمين أن يؤلف كتابا عنها، اعتذر ورشح لها عوض الذي لم تتفاءل كوكب الشرق بالعمل معه في البداية، ولكنها ما إن قرأت كتابه «أم كلثوم التي لا يعرفها أحد» حتى أبدت إعجابا لافتا بهذا الشاب الواعد، الذي استطاع الغوص داخل تفاصيلها.
كتاب «أم كلثوم التي لا يعرفها أحد» هو حكاية رواها محمود عوض بنفسه فيما بعد، قال إنه حاول في البداية أن يُجرى معها حوارا عبر التليفون، وبعد عدة مكالمات ظفر أخيرا بالحوار المنشود، وقبل نشره للكتاب سأله إحسان عبدالقدوس، رئيس تحرير «أخبار اليوم» في ذلك الوقت: «هل أطلعت أم كلثوم على الحوار قبل نشره؟»، فردّ على الفور: «منذ متى نسمح لأحد بالتدخل في عملنا؟»، غير أن إحسان عاجله: «إنها ليست أي أحد، إنها أم كلثوم»، وهنا وافق عوض على عرض الحوار على أم كلثوم، وعندما زارها في منزلها أبدت اعتراضا على جملة يفتتح بها مقدمة حواره معها، فغضب وسألها: «من منا يفهم في الغناء أكثر.. أنا أم أنت؟»، فردت أم كلثوم: «أنا طبعا»، فقال: «إذن فالكتابة هي عملى، وأنا أفهمه جيدا، ولن أغير المقدمة»، تجاوزت أم كلثوم الموقف، ونُشر الحوار بالطريقة التي كتبه بها عوض، ولم يكد الحوار يُنشر حتى فاجأته أم كلثوم باتصال هاتفى تخبره فيه أن «سعيد فريحة» صاحب دار الصياد مُعجب بالحوار، ويطلب نشره في إحدى مطبوعاته، غير أنها أبلغته أن صاحب الحق الوحيد في الموافقة هو محمود عوض، لأنه صاحب الحوار، وليست هي، وهنا فهم عوض الغرض من المكالمة، وهو أن أم كلثوم تسترضيه، وتحاول الاعتذار عن موقفها الأول بطريقة «شيك»، وحتى عندما أطلق على كتابه عنها عنوان «أم كلثوم التي لا يعرفها أحد»، وبلغه غضب بعض أقربائها من العنوان، جاء رضاها هي، كنوع من إعلان الاعتراف بكاتب متميز، حتى إن اختلف معه الآخرون.
وربما لأن أم كلثوم لم تكن مجرد مطربة يسهر الملايين في أنحاء العالم العربى لسماعها في الخميس الأول من كل شهر، وأنها كانت دنيا بأسرها، كانت موهبة كبيرة، وشخصية، ونفوذا، وسلطة عاطفية، وتناقضا حادا بين حياتها الخاصة، وحياتها العامة، ولأن أم كلثوم هي التي كان الزعيم جمال عبدالناصر يعشقها وكانت صديقة مقربة من زوجته، والتي يقول الإمام الغزالى عنها: «إنه كان مواظبا على الاستماع إليها»، ولأنها المطربة التي قال عنها العقاد: «إنها المطربة الموهوبة التي أثبتت أن الغناء فن رءوس وقلوب»، وحذر نجيب محفوظ من مقارنتها بغيرها قائلا: «قل في غناء أسمهان، وليلى، ونور الهدى ما تشاء، إلا أن تقارنه بصوت أم كلثوم، فتضره من حيث أردت أن تنفعه، وتهينه من حيث أردت أن تكرمه، وتمرغه في التراب، وقد رأت أن تسمو به إلى السماء»، نقول إنه ربما لجميع هذه الأسباب وكل هذا العشق الموجه لأم كلثوم وافق الصحفى محمود عوض على أن يكتب هذا الكتاب المهم الذي أوضح لنا الوجه الآخر لأم كلثوم، الوجه الذي لا يعرفه أحد من الجمهور المحب لها، إنه وجه الإنسانة، والأنثى العادية، والزوجة في حياتها الخاصة، وهو الوجه البعيد عن الجمهور الذي لا يراها إلا على خشبة المسرح، أو في لقاءاتها التليفزيونية.
وفى كتاب محمود عوض «أم كلثوم التي لا يعرفها أحد» يتحدث عوض عن الإنسانة التي لا نعرفها عن قرب، فيقول في الفصل الذي عنونه باسم «أم كلثوم في البيت»:
«ومن الأمور المُتكررة كل يوم جمعة أن تخرج أم كلثوم في جولة مع زوجها سيرا على الأقدام في شارع النيل، إن أم كلثوم تحب المشى، إنها تسير يوميا لمدة ساعة تقريبا على النيل، ما عدا أيام الصيف، لأن الجو بيبقى حر، وهى تصلى، ومن أحسن أوقاتها تلك التي تجلس فيها ممدودة القامة حافية القدمين، مرددة آيات القرآن الكريم، إن القرآن، والمشى جزآن من التقاليد الثابتة في حياة أم كلثوم، مواعيد النوم والاستيقاظ أيضا ثابتة غالبا، في اليوم العادى لا تتأخر في النوم، بالكثير الساعة الحادية عشرة مساء، ثم تستيقظ في الثامنة صباحا، لا إفطار، مجرد فنجال شاى، الغداء أيضا حسب الظروف، أما الوجبة الرئيسية فهى العشاء.
ولكن، عندما تكون لديها بروفات، أو حفل عام يتغير الجدول، الغداء يصبح هو الوجبة الرئيسية: لحوم طيور وخضراوات، «الشعرية» من أحب الأطعمة عند أم كلثوم، بعد الغداء تشرب دائما عصير فواكه طبيعى، عصير مُعد في المنزل، غالبا عصير جوافة.
وفى ليلة الغناء لا تتناول أي أطعمة في المساء، لا عشاء، ولكنها قبل الغناء لا بد أن تشرب فنجال قهوة بارد عادة، بعد الغناء ساندويتش، ولا نوم حتى الصباح.
وحتى سنوات قليلة مضت كانت أم كلثوم تقوم دائما بزيارة مسجد الحسين، ومسجد السيدة زينب قبل أن تغنى، أما الآن فهى تكتفى بقراءة آيات من القرآن الكريم، إنها تتمتم بآيات القرآن في كل خطوة، حتى عندما تسير في الشارع، أو تركب سيارة، لقد ركبت معى السيارة مرة في طريقها من منزلها إلى مبنى التليفزيون، وفى أول خمس دقائق اكتشفت أن عقلها ليس معى، إنها تردد آيات القرآن سرا، بعد لحظات كانت مستعدة للكلام، ساعتها أبطأت السيارة، وبدأت أجرى معها حوارا بالخطوة السريعة.
هكذا أجابت أم كلثوم !
ما هي أكبر خطيئة: أن ترى الخطأ ولا تنتبه إليه.
أحسن صديق: شخص يشاركك ألمك.
أحسن مكان: حيث تنجح.
أقصر طريق للنجاح: العمل.
أحسن عمل: الذي تحبه.
أكبر راحة: أن تؤدى عملك جيدا.
أكبر خطأ: اليأس، إنه موت مبكر!
أسهل شىء: أن تجد خطأ لشخص آخر.
أكبر عيب: الغرور.
أحسن مدرس: شخص يرفض أن يجاملك.
أحقر شعور: الحسد.
أكبر لغز: الحياة.
أعظم شىء في العالم: الحب.
أكبر مقلب: شخص لا يفهم ما تريد.
أكبر عدو: إسرائيل.
أعظم مهمة: أن نفتدى بلدنا بحياتنا.
أكبر أمل: أن تعود فلسطين.
أشرف واجب: الدفاع عن الحق.
أسمى فكرة: الله».
ولعلنا من هذا الجزء الذي حاولنا اقتباسه من كتاب «أم كلثوم التي لا يعرفها أحد» قد لاحظنا أن محمود عوض كان حريصا كل الحرص على أن يكون مرافقا لأم كلثوم الإنسانة العادية في كل خطواتها، وأن ينقل إلينا هذه الصورة بكل وضوح، وحب، كى يقرب صورتها أكثر لمعجبيها، ومحبيها من الملايين الموجودين في العالم العربى كله، وليس في مصر فقط؛ ربما لأن الجمهور دائما يحاول النظر إلى من يُعجبون به من الفنانين، أو الكتاب نظرة لا تكاد تخلو من القدسية في إحدى تصوراتها، ولذلك حرص عوض على أن يزيل قدرا من هذه القدسية لتقريبها من صورتها الإنسانية التي تجعلها تتشابه مع الجمهور أكثر.
كما يحكى عوض في مقدمة الطبعة الرابعة من هذا الكتاب حكاية المشروع المهم الذي فكرت فيه أم كلثوم فيقول: «قامت أم كلثوم بدعوة عدد من أصدقائها الذين تثق فيهم، لكى تعرض عليهم فكرتها البسيطة للغاية، فكرة أن تقيم دارا خيرية، لتعليم الفتيات اليتامى أشغال التطريز، والحياكة، وما إلى ذلك، يومها.. ونحن نتشاور مع أم كلثوم في جلستنا الهادئة بنادي الضباط بالزمالك في القاهرة، كانت هناك آراء متعددة بقدر تعدد الحاضرين، لقد كان في المقدمة فكرى أباظة، وصالح جودت، والدكتورة عائشة راتب (وزيرة الشئون الاجتماعية حينئذ)، وعثمان أحمد عثمان، وأنيس منصور، وحسن زكى (رئيس بنك القاهرة حينئذ)، وحمدى عاشور (محافظ القاهرة حينئذ)، والذي أصبحت الدعوات إلى الاجتماعات التالية ترد إلينا باسمه.
وقالت لنا أم كلثوم: «إننى أفكر في عمل مشروع خيرى، قدرت له ما بين عشرين إلى ثلاثين ألف جنيه- كان هذا في سنة ١٩٧٢م- وهدفى منه أن يكون مكانا للفتيات اليتامى، يتيح لكل منهن موردا شريفا للعيش، ومكانا آمنا للحياة»، وخلال دقائق كانت الفكرة قد تحولت إلى مجرى آخر تماما، لقد قال عثمان أحمد عثمان: «عشرين ألف جنيه إيه وثلاثين ألف جنيه إيه يا ست؟ بقى أم كلثوم بجلالة قدرها.. أم كلثوم كوكب الشرق.. لما تعمل مشروع تعمله بعشرين ألف جنيه.. ومن جيبها، ليه، خلاص، مفيش وفاء، مفيش خير في البلد؟»، فردت عليه: «طيب عايز إيه يا عثمان؟»، فقال: «عايز أقول إن أم كلثوم لما تعمل مشروع، يبقى لازم يكون فيه مسرح، ومتحف، وقاعة حفلات، وستوديو، ولوكاندة، وسينما، و.. و.. و.. حاجة كدا لا تقل عن مليون جنيه»، وهنا قاطعه أحد الحاضرين بانزعاج شديد قائلا على الفور: «مليون جنيه؟ طيب.. وأم كلثوم تدفع المبلغ دا منين؟»، لكن جراب الحاوى لم يكن يخلو أبدا من الابتكارات، لقد قال عثمان أحمد عثمان: «ومين قال إن أم كلثوم تدفع مليم واحد من جيبها؟ إحنا نعمل يانصيب.. قيمة التذاكر فيه مليون جنيه.. ونقول دا علشان مشروع أم كلثوم للخير.. وبعدها شوفوا بقى الناس هتدفع كام.. وحتى بلاش الناس.. كفاية الأمراء العرب.. مش كدا يا ست؟»، وتساءل رئيس بنك القاهرة: «لكن مشروع كبير زى دا تلزمه مصروفات في البداية، وتكاليف للدعاية، والطباعة، والإعلان، من سيدفع المصروفات؟»، كان عثمان أحمد عثمان جاهزا للرد: «بنك القاهرة يدفع المصروفات.. ويا سيدى إن كانت المسألة مسألة ضمانات.. إحنا نضمن لك السداد»، وتساءل أحدهم: «إحنا مين؟ المقاولون العرب؟»، رد عثمان: «لالا.. شركة المقاولين العرب تضع التصميمات والرسومات، لكن إحنا.. اللى قاعدين هنا.. أكبر ناس في البلد.. نكون ضامنين للقرض الذي سنحصل عليه من البنك في البداية.. بعدها المشروع يصرف على نفسه»، وهنا صرخ فكرى أباظة مقاطعا: «يا عثمان إحنا كلنا لو جمعتنا على بعض دلوقت.. مش هتطلع بمائة جنيه، إنت فاهم مهنة الكتابة زى مهنة المقاولات؟»، لكن صراخ فكرى أباظة تبخر في الهواء.. وكان لا بد أن يحدث ذلك، وفى اليوم التالى قالت لى أم كلثوم بطريقة تبدو عابرة: «لماذا كنت صامتا تماما أمس؟»، قلت لها ببساطة: «إننى مع الفكرة الأساسية التي بدأ بها الاجتماع.. ولكننى لست مع الفكرة الأخرى التي تطور إليها، فحينما تخرج أم كلثوم إلى الناس لكى تقول لهم: إننى سأقيم مشروعا خيريا بهذه العشرين ألف جنيه من مالى الخاص.. سيتفهم الناس فورا الرسالة التي تريد أم كلثوم أن تقولها، أما حينما تخرج أم كلثوم إلى الناس لكى تقول لهم: إننى أريد أن أقيم برجا ضخما على شاطئ النيل، يحمل اسمى، ولكنه سيتم بأموالكم، فهذا شىء آخر يختلف تماما»، وهو الكلام الذي كانت أم كلثوم مقتنعة به بالفعل، ولذلك كانت متململة من اقتراح عثمان أحمد عثمان.