الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

معركة المياه.. ماذا نحن فاعلون؟!(2)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في عام 1994، نشر “,”شمعون بيريز“,”، الرئيس الإسرائيلي الحالي، وأحد صنّاع الدولة الصهيونية وواضعي استراتيجياتها الكبار، كتابًا على درجة عظيمة من الخطورة والأهمية، عنوانه “,”الشرق الأوسط الجديد“,”.
وفي هذا الكتاب دق “,”بيريز“,” طبول حرب المياه بقوة، وأعلن من خلال سطوره أن “,”قضية المياه“,” قضية “,”مركزية“,” في “,”منطقة الشرق الأوسط“,”.
فقد كان هذا الكتاب واحدًا من الكتب المبادرة بإثارة “,”قضية نقص موارد المياه“,”، إلى حد استشراف مستقبل تكون فيه “,”العلاقات بين دول المنطقة تُملى من قِبل سياسة المياه“,”، وحيث يصبح برميل المياه أغلى من برميل النفط، وربما يكون لتر المياه أثمن من لتر الدم، وهو ما يوجب “,”أن تكون المياه في الشرق الأوسط ملكًا للمنطقة“,” بأكملها، وهو أكبر دليل على حاجة المنطقة لإنشاء “,”نظام إقليمي، ومن خلال هذا النظام فقط يمكننا التخطيط وتنفيذ مشاريع المياه، وتوزيع المياه على أساس اقتصادي لأسلوب عادل ومؤتمن“,”!.
هكذا وبضربة واحدة وضعت إسرائيل نفسها في قلب الصراع حول المياه في المنطقة، هي التي تحتاج إلى أضعاف ما تغتصبه من مياه فلسطينية وأردنية ولبنانية وسورية، لتغطية توسعاتها الاستيطانية التي لا تحدها حدود، واعتبرت أن مياه المنطقة ملك لكل دولها، كل حسب حاجته، ومن ثم فلإسرائيل الحق في استيفاء حاجتها من مياه المنطقة، إن سلمًا أو حربًا، مما يتوافر لدى الآخرين من مياه، وعيناها على مياه نهر النيل بالأساس، فضلاً عن التلويح بإغراء امتلاك إسرائيل لتكنولوجيات معالجة المياه، وتحلية مياه البحر الضرورية لاستكمال وسد الحاجات الضرورية من المياه، لدول المنطقة التي تتزايد سكانيًا، وتتزايد متطلباتها من هذا السائل الثمين.
لكن هذا الكتاب المهم، لم يكن أول إعلان لأطماع إسرائيل في المياه المصرية، إنما كان ذروة اهتمام فائق أبدته الحركة الصهيونية، بمشكلة المياه، منذ بواكير نشاطها في بلادنا، وفي إطار سعيها لتحقيق “,”الوطن القومي“,” المزعوم لليهود، باعتبار أن توافر مصادر مضمونة من المياه لري الأرض، وتنمية البيئة، وكفالة أسباب الحياة للمستوطنين فيها، يمثل حجر الأساس، والذي يستحيل تنفيذ المشروع دون تحقيقه.
ويذكر التاريخ أن “,”تيودور هرتزل“,”، مؤسس وزعيم “,”المنظمة الصهيونية العالمية“,”، ومؤلف كتاب “,”الدولة اليهودية“,” الشهير، قد عرض في بدايات سنة 1903، بعد أن أعد الدراسات الوافية، على ممثلي الاحتلال، وفي مقدمتهم “,”اللورد كرومر“,”، المعتمد البريطاني في مصر، وملكها غير المُتوّج، إنشاء مستعمرة صهيونية كبيرة على مساحة تُقدّر بثلث مساحة شبه جزيرة سيناء، من “,”شاطئ البحر الأبيض شمالاً، والحدود التركية شرقاً (كانت هذه المنطقة من فلسطين في معيّة الخلافة العثمانية“,”، والحدود الجنوبية مساقط مياه وادي العريش ومرتفعات التيه، أي خط 29 عرض تقريبًا، مماس لمنطقة “,”أبوزنيمة“,”، وتكون الحدود الغربية هي قناة السويس والخليج!“,”.
وهذا المشروع الصهيوني الذي كان سيقتطع من مصر هذا الجزء الغالي، لمدة 99 عامًا قابلة للتجديد لمدة مماثلة “,”أي لقرنين من الزمان!“,”، مُقابل إيجار هزلي!، منح لنفسه حقوقًا مطلقة، لا مُراجع لها من جهة الدولة المصرية: حق استغلال كل الأراضي الممنوحة، وكفالة حقوق المستعمرين الدينية، والإعفاء الكامل من الضرائب لمدة خمس سنوات، والتصريح بإنشاء الموانئ وتحصيل رسومها، وشق الطرق، والسكة الحديدية، وإنشاء خطوط البرق والهاتف، وتعيين الموظفين، وإنشاء البلديات.. إلخ، في المنطقة الممنوحة!.
والأخطر مما تقدم أن المشروع تضمّن مد المستعمرات الصهيونية بحاجتها من المياه عن طريق توصيل مياه النيل إليها، عبر ثمانية أنابيب ضخمة قطر كل منها متران تمر في أنفاق تحت قناة السويس، فضلاً عن الاستغلال المُنَظّم للمياه الجوفية في المنطقة!.
وهو أمر يستدعي للذاكرة المشاريع التي يُعاد طرحها الآن، عن تأجير مساحات من سيناء لإزاحة الفلسطينيين إليها، أو مشروع ما يُسمّى بـ“,”إقليم قناة السويس“,”، وغيرها من المشاريع المشبوهة، التي تُفَرِّطُ في السيادة الوطنية، وتتنازل عن حق مصر في كامل ترابها وأرضها، لصالح جهات خبيثة، تقف من ورائها الصهيونية بكل أطماعها وأحقادها، حتى وإن ارتدى مَن يحتل الواجهة “,”الغترة“,” و“,”العقال“,”، وَنَطَقَ بلسان عربي فصيح!.
لكن هذا المشروع تعثّرَ لحاجة بريطانيا إلى كامل مياه النيل من أجل ري زراعات القطن المصرية التي كانت مصانع “,”لانكشير“,” البريطانية، تعتمد عليها اعتمادًا كليًا، وخاصةً بعد تَفَجُّر الحرب الأهلية الأمريكية، وتوقف إمدادها بالقطن الأمريكي، وكذلك لأن نُذر الحرب الكونية الأولى كانت تدق على الأبواب!.
فشل المشروع لكن حلم سرقة مياه النيل ونقلها إلى الدولة الصهيونية، بعد اغتصاب فلسطين، ظل يراود مُخيّلة قادة المشروع الصهيوني، ولم يتراجع أبدًا من المخيّلة الإسرائيلية، حتى تهيأت الظروف بعد زيارة الرئيس “,”المؤمن“,”، الأسبق: “,”أنور السادات“,”، القدس المحتلة، وتوقيع اتفاقات “,”السلام!“,”، مع “,”إسرائيل“,”، حين عرض السادات على “,”عزيزه“,” مناحيم بيجن، رئيس الوزراء الصهيوني آنذاك، في ديسمبر1979، بعد عرض سابق بتوصيل مياه النيل إلى صحراء النقب عبر ما أسمي “,”ترعة السلام“,”!، أن يمد مياه النيل إلى القدس المحتلة، “,”لكي تكون في متناول المؤمنين المترددين على المسجد الأقصى ومسجد الصخرة وكنيسة القيامة وحائط المبكي“,”، ثم يبلغ الدجل السياسي مداه، حين يُعلن الكاتب الراحل “,”أنيس منصور“,”، على لسان “,”الرئيس المؤمن محمد أنور السادات!“,”: أن الهدف من هذا كله، هو أن يصبح ماء النيل بمثابة “,”آبار زمزم“,” لكل المؤمنين بالأديان السماوية الثلاثة!، (مجلة “,”أكتوبر“,”، العدد 164، السنة الرابعة، 16 ديسمبر 1979)..
في 6 أكتوبر 1981 اغتالت رصاصات أصدقاء السادات من الجماعات الدينية الرئيس المصري الثالث، قُتل غيلة بيد مَن أخرجهم من السجون، ودللهم، ومنحهم حريات واسعة للحركة، لمساندته في الحرب على اليساريين “,”ماركسيين وناصريين“,”، الذين حمّلهم مسئولية تفجير وقيادة ثورة الغضب الشعبية، في 18 و19 يناير 1977، والتي كادت تطيح به من على عرش البلاد!.
ورغم رحيل السادات فإن حلم اقتناص مياه النيل كان يثير لعاب قادة الدولة الصهيونية، ولم تتوقف مؤامراتهم لحصار مصر مائيًا، ولدفعها للركوع حتى تستجيب لشروطها ومطالبها.