السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الفن مواجه لمخالب الألم ومتاعب الحياة!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

منذ أيام قليلة كنت أستعد لتقديم حفل بالأوبرا المصرية يوم ١٩ أكتوبر، على آلة (الفيولا) وبصحبتى مجموعة كبيرة من أروع العازفين، ونتيجة للمجزرة التى حدثت بفلسطين الحبيبة على أيدى الصهاينة، من تفجير وقصف متوحش للمستشفى الأهلى المعمدانى بغزة، راح ضحيته مئات من الأطفال والشهداء الأبرياء، بخلاف مئات المصابين.. تم إعلان الحداد العام فى الدولة، وبناءً عليه تم تأجيل الحفل.. وهو قرار صائب وحكيم، لأننا جميعًا نبكى حزنًا من هول وعنف ودموية ما رأيناه من مشاهد قاسية.. وأرى الشعب العربى بأجمعه فى حالة حزن، ولا نستطيع حتى النوم من صور الأطفال وأشلائهم المتناثرة على الأرض، ومن ممارسات هذا العدو الذى يغتصب حقهم في الحياة!.. كما أوجعنا صرخات الأمهات، وهن بين بحث عن أولادهن، أو شكوى إلى الله من إستشهاد زهرات عمرهن!.. وأكثر ما آلمنا حالة إنفصام المجتمع الدولي، والذي إنتفض أمام إحتجاز حماس للأسرى - رغم حسن معاملتهم- وأمام هذا القتل والتشريد، ومحاولة إبادة شعب لمجرد أنه يقاوم، وهو حق كفلته كل القوانين الدولية!.. المجتمع الدولي يتناسى أن الكيان الصهيونى إغتصب الأرض الفلسطينية، وشرد أهلها، والآن يحاول إبادتهم بين موت وتهجير!.
الأحداث المؤلمة كانت عائقًا أمام أداء حفل يحتاج منا صفاء الذهن، والظهور في أبهى صورة لإسعاد الجمهور، وتقديم رسالتنا الجادة وإستقبالها برضا الحضور.. ورغم أننى ترددت كثيرًا قبل إعلان الحداد رسميًا، ماذا أفعل لو لم يتم إعلان الحداد؟! هل ألغى الحفل أو أطلب تأجيله؟! فإذا كنا أنا وزملائي نمارس فنوننا تحت أى ظرف، لأن الفن بالنسبة لنا ليس ترفيهًا أو لعبًا أو تسلية، وإنما عمل دؤوب وجهد شاق وتدريبات مستمرة وقاسية، ولكن مع هذا الظرف يصعب علينآ أن نجتاز الحزن!.. ومع ذلك ورغم الحالة النفسية السيئة، إلا أننى حسمت الأمر، وقررت أن أتماشى مع قرار الدولة أيًا كان، وأن أستمر فى تقديم الحفل، إذا لم يُتخذ قرار رسمى بالتأجيل!.. لأننى على يقين بأننا لن نعبر الحزن والألم الذى نعيشه، إلا بالعمل والاجتهاد، لأن إنكسار أمتنا لم يأت سوى من التهاون فى العلم والعمل!.. وعلى كل منا أن يحاول أداء دوره على أكمل وجه فى ميدان عمله، كى ننهض!.. فنحن لن نذهب جميعًا كي نحارب أو ندافع عن الأرض، ولا نحتاج أن نحفز الهمم كى يذهب الشباب إلى فلسطين! ويتخيلون أنهم بحماسهم وترديدهم للشعارات المعتادة قادرون على تحرير القدس! فكم من إرهابيين تم إستقطابهم من خلال دعاوى الجهاد الزائفة، والتى لم تزدنا سوى ضعفًا وقهرًا وتشريدًا!.. لسنا فى حاجة لجنود آخرين فى ساحات القتال، فلكل مهمته! ولكننا فى أشد الحاجة أن نتعلم كيف يحارب كل منا بسلاحه فى موقعه.. فالأعداء المتربصون بنا وبأمتنا أصبحوا يملكون القوة فى كل التخصصات والمجالات، وعلينا نحن أيضا أن نقتنص مكانًا ومكانة فى كل التخصصات بالعلم والعمل، وليس بالتوقف عن أداء أى عمل، لنقف عاجزين مكتوفى الأيدى!.. لذلك أرفض بشدة الدعاوى التى تطالب بوقف كافة الأنشطة الفنية، وتزايد على الفنانين الذين يُقدِمون على أداء عملهم، والقيام بدورهم! فدور الفن لا يستهان به، حتى فى الترفيه والسخرية التى كثيرًا ما تعيننا فى الشدائد!.. وعلينا أن ندرك أننا بالفن يمكن أن نصل إلى ما لا يمكن أن نصل إليه بأى وسيلة أخرى!.. وقد لفت إنتباهى منذ أيام خبر منشور يوم ١٨ أكتوبر، فى صحف أجنبية عن عازف الفيولا أميهاي جروس Amihai Grosz ليدر مجموعة الفيولا فى أوركسترا برلين الفيلهارموني (والذى يعد من أرقى وأعرق الأوركسترات على مستوى العالم) هذا العازف الشهير قام بعزف عمل موسيقى بإسم “تذكر” للمؤلف المجرى الإسرائيلى أودون بارتوس  Odon Partosوالذى تم كتابته للفيولا والأوركسترا فى ذكرى الهولوكوست في عام ١٩٤٦.. (١٩٠٧- ١٩٧٧).. وقد قرر جروس أداء هذا العمل - وفقا لما نشر- كوسيلة للفت الإنتباه إلى ما أسماه "محنة إبن أخيه" الإسرائيلي المختطف من قِبل حماس، ضمن ٢٠٠ من الإسرائيليين، الذين أخذتهم حماس وإحتجزتهم كرهائن للحصول على فدية!.. وذكر أن العازف جروس لا ينام بسبب القلق على إبن أخيه الإسرائيلي!.. كان هذا الخبر المنشور بعد ساعات من تفجير المستشفى، وكأن ذلك العمل الإجرامي فى حق الفلسطينيين لم يحدث!.. وتم تصوير ما أقدمت عليه حماس على أنه مجرد عملية إختطاف للحصول على فدية، وليس نتيجة للإرهاب الذى يمارسه الكيان الصهيونى ضد الآمنين والأبرياء! والذى لا يمكن أن يؤدى إلا إلى المزيد من العنف والدم!.. ولكن هكذا يرى أغلب الأوروبيين ما يحدث فى فلسطين، وهكذا هم من يحاربوننا، لا يكتفون بالقصف والطائرات والدبابات فقط! بل يحاربوننا بشكل أكبر بالمواقف والكلمات وطمس الحقائق!.. لأنهم يملكون الإعلام العالمى، ويحركونه كيفما شاءوا!.. ومن ناحية أخرى رأينا كيف لم يتوقف عازف الفيولا الشهير عن عمله، بل على العكس قرر أن يحارب بعمله، ووجه رسالة للعالم كله تزيد التعاطف مع الكيان الصهيونى، وتمنحه غطاءا شرعيا لإرتكاب المزيد من العنف والدموية ضد الفلسطينيين!.. لذلك على كل منا أن يدرك دوره ومسئوليته، ولا يتكاسل أو يتهاون فى أداء مهمته بدعوى الحزن!.
د. رشا يحيى: أستاذة بأكاديمية الفنون