الأربعاء 01 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

ياسر الغبيرى يكتب.. نماذج نسوية من أدب نجيب محفوظ

رواية الطريق
رواية الطريق
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ناقش أدب نجيب محفوظ العديد من الموضوعات الاجتماعية والسياسية والدينية والفكرية ومن بين هذه الموضوعات ناقش المواقف النسوية في مواجهة النظام الأبوي الحاكم للمجتمع.

في رواية "الطريق" التي تحولت لفيلم سينمائي عرض للمرة الأولى عام (1964) ناقش أديب نوبل فكرة السيطرة والسطوة النسوية، والخروج عن المألوف، من خلال شخصية "بسيمة عمرات"، تلك القوادة المُتمرّدة صاحبة واحد من أكبر بيوت الدعارة، التي وفرت للرجال المتعة المُحرّمة بكافة صنوفها وأشكالها، تلك المرأة القوية التي اخترقت مهنة الرجال، من خلال استقطاب النساء وإدارة شبكة للدعارة ولعب البوكر ومعاقرة الخمر، وهي مهن لا يقوى عليها إلا الرجال، نظرًا لما يحفها من مخاطر وما تحتاجه من قوة لفرض السيطرة وحماية هذه التجارة المحفوفة بالمخاطر، كما ناقش فكرة البحث عن الخلاص والسلام والاطمئنان، من خلال شخصية "صابر الرحيمي".

كان تأسيس هذا الوكر هو الإطلالة الثانية لـ"بسيمة عمران" لتقدم نفسها للمجتمع باعتبارها مُتمردة على النظام الأبوي الحاكم للمجتمع أنذاك، والذي يسيطر فيه الرجل على كل شيء، لتعكس بذلك صورة مُغايرة للمتعارف عليه، بل وتفرض نظامًا نسويًا جديدًا على المجتمع، تتصدر فيه المرأة وتكون بمثابة صاحب الكلمة والرأي، بل وتجعل من الرجل / الرجال مجموعة من المعاونين الذين يأتمرون بأمرها، ويسيرون في ظلالها ومن يخالف منهم يكون مصيره الطرد أو التشريد أو الخروج من جنة بسيمة عمران التي بنتها كيفما شاءت وأرادت لها أن تكون.

كانت الإطلالة الأولى لـ"بسيمة عمران" حينما تمرّدت على أحد الرجال المحترمين "سيد الرحيمي"، الذي انتشلها من براثن الضياع، وتزوجها ليصنع من بائعة الهوى اللعوب سيدة مجتمع محترمة، وما إن انجبت بسيمة عمران وليدها (صابر) حتى لاذت بالفرار من زوجها تاركة بيت الزوجية إلى غير رجعة، لا لشيء سوى العودة للقاع الذي انحدرت منه.

ربما كان الدافع لفرار بسيمة عمران أنها أرادت الحصول على حريتها، ولكن أية حرية أردت تلك المرأة؟ هذه المرأة مثّلت نموذج من تريد الحرية بودن قيد أو رباط، وإن كان القيد هو الزواج والأسرة والاستقرار، والرباط هو الرباط المقدس، ورغم قدسيته يمكنها الفكاك منه بطرق مشروعة، غير الفرار للانزلاق والوقوع عن قصد إلى هاوية يصعب الصعود منها. رفضت بسيمة عمران التراتبية الهرمية الأسرية (زوج / زوجة)، ولاذت بالفرار لتصنع تراتبية جديدة لها ولطفلها الصغير صابر، لتصبح بذلك الأم والأب والمسيطر والحاكم وصاحبة الأمر والشورى.

صنعت "بسيمة عمران" عالمًا مليئًا بالملذات لطفلها الصغير الذي نشأ وتربى في أحضان العاهرات، يترك هذه ليذهب لتلك، وما إن يفيق في الصباح حتى يعاود الشراب استعدادًا لملذات النساء. 

أصبح "صابر" بفعل الأم التي وفرت له كل ما يريد من ملذات الحياة مقامر سكير، علاوة على  أنه عاطل لم يكمل دراسته، ولم الدراسة والتعليم وكل ملذات الحياة متوفرة بين يديه، قبل أن يطلب المال يجده، وقبل أن يشعر برغبة تجاه امرأة ترتمي في أحضانه؛ فهو ابن السيدة الأولى، تلك السيدة التي فرضت سيطرتها فوفرت له الحماية والرعاية وكل ما يحتاج إليه، وهي لا تدري أن هناك ضريبة لابد أن تدفع لقاء الإخلال بالنظام الاجتماعي المُتعارف عليه، إلى أن جاءت اللحظة التي لا مفر منها، وبدأ الانهيار، واستبد المرض من المرأة القوية، وانهارت أسطورتها، وحينما شعرت هي بذلك أوصت (صابر) أن يبحث عن والده. 

بدت الدهشة على وجه صابر، فهو المدلل طوال حياته، مترف منعم لا يحتاج إلى أب ولا عمل، لا يحمل همًا لمال أو طعام، فالإمبراطورية التي بنتها له القوادة المُتمردة، كانت كفيلة أن تجعله ملك غير متوج، إلا أن هذه الإمبراطورية انهارت فوق رأسه حينما أخبرته بحكايتها، وعرف أنها فرت من والده سعيًا وراء نزواتها ورغباتها.

قفزت بسيمة عمران من قارب أيام "صابر الرحيمي" في وسط المحيط وتركته وحيدًا بعد أن كانت العالم بأثره بالنسبة له، تركته وهي تُمليه فقط أسم والده ليبدأ رحلة البحث عن المجهول الذي لم يره من قبل ولا يعرف عنه شيء، ولكنه يعرف شيء واحد، أنه الخلاص، وأنه سبيله الوحيد إلى الحياة الكريمة وأنه سيواجه بدونه تشرد وضياع أو عناء وتعب وجهد لإصلاح ما افسدته "بسيمة عمران" في نفسه وحياته، في أحسن الأحوال.

بدأت رحلة البحث عن الأب، وبغض النظر عما قاساه صابر في الوصول إلى والده، إلا أن الرحلة كشفت أن ميزان الأسرة، التي تُمثّل اللبنة الأولى للمجتمع انهار بمجرد أن تغير النظام بشكل عشوائي، انهار حينما انسحبت الأم ولاذت بالفرار، وبدلًا من أن تصنع مستقبلًا آمنًا وتوفر حياة مستقرة لطفلها، صنعت أسطورتها الخاصة، المرأة القوية الخارقة التي لا تحتاج إلى رجل لتستمر حياتها، هي فقط تحتاج لنفسها وقوة عقلها لتبني أسطورتها وسطوتها، وبمجرد أن انهار هذا النظام العشوائي البديل، أنكشف عوار بنائها، ليجد الأبن نفسه مشردًا فكان الحل السريع لدى الأم تقديم النصح لأبنها وحثه على أن يبدأ بنفسه في معالجة ما اقترفته من أخطاء حينما كان رضيعًا، حيث أرادت منه أن يعود مرة أخرى للنظام الأبوي (زوج / زوجة/ طفل) الذي فرّت منه قديمًا، ولكن هل كانت "بسيمة عمران" النموذج النسوي الأوحد في الرواية أم أنّ هناك نماذج أخرى تعامل معها صابر؟

في بداية رحلته للبحث عن والده، ذلك السراب الذي لم يعرف عنه سوى أسمه، ألتقى "صابر الرحيمي" بسيدتين هما كريمة الشابة الفتية – اللعوب أيضًا - زوجة صاحب البانسيون البائس شديد المرض، وإلهام الفتاة الرشيقة المفعمة بالحياة، التي وقفت أمام عثراتها رغم كل الصعاب لتحقق حلمها في صنع عالمها الخاص دون اتكالية على أحد، أو انتظار مخلّص يكون بمثابة طوق نجاة لها، وبعد مثابرة وعناء استطاعت أن تقتنص لنفسها فرصة لتعمل صحفية في إحدى الجرائد المرموقة. 

كانت كريمة الصورة الموازية والأقرب لـ"بسيمة عمران"، فهي أيضًا مصدر للملذات والمتعة، هاوية جديدة، بمجرد أن يقترب منها ستكون نهايته الحتمية. وعلى الجانب الأخر كان إلهام الصحفية العاقلة الناصحة الناضجة، التي اعتمدت على نفسها، ووقفت على أقدامها وأثبتت لنفسها ولمن حولها أن المرأة كفء للرجل، نسوية هي، ولكنها ليست بسيمة عمران، قوية وواثقة، ولكنها ليست القوادة مفسدة للرجال، قادرة على فعل ما يفعله الرجال بعقل وشرف وإخلاص، ظهرت في حياة صابر في وقت أحوج ما يكون فيه لوجودها، فهي طوق النجاة الحقيقي وطريق الخلاص، وكان على "صابر الرحيمي" أن يُقرر ويختار مع أيهما يُكمل طريقه.

صابر الرحيمي الذي بدأ رحلة البحث عن والده لكي يهتدي إلى الطريق، غلّب رغبته على عقله، كما فعلت من قبل "بسيمة عمران"، فانزلق كما انزلقت، ووقع كما وقعت، وسار في طريق لا رجوع فيه كما بدأت هي من قبل، فاتبع خطوات "كريمة" التي عشقته وطلب منه قتل زوجها، وأدار ظهره لإلهام التي أحبته، والتي مثّلت الوجه الأخر للنسوية بصورتها المُشرقة في رواية "الطريق"، رغم كل ما واجهته من عقبات، ورغم إيمانه أنها طوق النجاة، إلا أنه تركها وتعلّق بالسراب.

وربما يطفو سؤال على السطح مفاده، ماذا لو أن "بسيمة عمران" كانت تُحمّل أبنها أكذوبة غير حقيقة حول والده، وأنها لم تهرب حقيقة، وأنها أرادت فقط أن يترك أرض الوباء التي غرسته بها ليغادر إلى أرض جديدة ربما يجد ذاته هناك، هل هذه الأكذوبة - إن صحّت - كانت لتغفر لـ"بسيمة عمران" ما صنعته بهذا الشاب منذ كان طفلًا، وهل ألتقط هذا الشاب الخيط الذي ألقت به "بسيمة عمران" ليبحث لنفسه عن حياة جديدة بعيدًا عن تلك الحياة التي صنعتها له من قبل؟ 

لم يُدرك صابر أن الخلاص كان كامنًا في داخله، لم يعرف أنه هو الوحيد القادر على تغيير ما  صنعته "بسيمة عمران"، إلا أنه رفض أن يتشبث بـ"إلهام" اليد التي مُدت له بالنجاة والأمان، لتنتهي حياته خلف قضبان، وأمام حبل مشنقة مُعلّق، وهو ينادي والده ويسأله النجاة والخلاص.

استطاع نجيب محفوظ في هذه الرواية أن يُقدّم نموذجًا للمرأة القوية، النسوية المُتمردة، فتاة الليل والقوادة، قوية الانجراف نحو الرغبة واللذة، التي بَنَتْ لنفسها عالمًا خاصًا، اعتقادًا منها أنها لن تحتاج إلى رجل، ولكنها افاقت حينما اصطدمت بالواقع لتجد أنها صنعت خللًا في البنية التراتبية للمجتمع، صنعت إنسان غير مؤمن بنفسه، رجل بالهيئة والشكل الخارجي، لكنه لا يجد في نفسه شيئًا سوى أبنًا لقوادة ومتمردة آثمة، وحينما بحث عن الخلاص بحث عنه في صورة رجل آخر هو (الأب) المفقود، وحينما مُدّت له يد امرأة سوية، رفض التشبّث بها وانساق وراء غرائزه، وما اعتاد عليه في عالم "بسيمة عمران". 

هل كان صابر بحاجة حقيقية للأب ليغير قدره؟ أمّ أنه كان بحاجة لصابر آخر يمتلك رغبة حقيقية في تغيير واقعه ليصنع لنفسه حياة جديدة بعيدًا عن السلطة النسائية التي تربى عليها، وإن كانت "بسيمة عمران" اخطأت في حقه طفلًا صغيرًا، وشابًا مراهقًا، فهل أخطأ في حق نفسه رجلًا ناضجًا؟