الأربعاء 05 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

الغائب.. المقيم بيننا.. نظرة من شُرفة خاصة على صلاح عبد الصبور

صلاح عبدالصبور
صلاح عبدالصبور
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

طلع الصباح، فما ابتسمت
ولم ينر وجهي الصباح
وأتى المساء 
في غرفتي دلف المساء
والحزن يولد في المساء لأنه حزن ضرير
حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم
حزن صموت.. والصمت لا يعني الرضاء بأن أمنية تموت.. وبأن أياما تفوت.. وبأن مرفقنا وهن.. وبأن ريحا من عفن، مس الحياة فأصبحت وجميع ما فيها مقيت.
يا صاحبي إني حزين.. لا أعرف السر في أني كلما ذهبت لقراءة صلاح عبد الصبور أول ما يتبادر إلى ذهني هذه الجملة: يا صاحبي إني حزين! لا أعرف أيقولها هو لي!.. أم أقولها أنا له!.. أم أقولها لنفسي! تثير كلمات عبد الصبور في قلبي الشجن وتستدعي "لحن" الحلم من قلبي ذلك الذي كان يحمل "أحلام الفارس القديم" وذكريات قريتنا، أظنه لا يعلم الآن هذا الحواتكي العظيم، أنني في كل مرة أدخل قريتنا أبكي على رحيل عم مصطفى واسأل عن حفيده خليل برغم مرور السنين.. لا يعرفني أهل القرية وأنا منهم وربما عشت عمري خادمهم.. يسألني أحد شبابهم وأنا أحمل صورة "عبد الصبور" وأبكي من أنت.. ومن صاحب الصورة؟ 
أجيبه: أما أنا فرجل من غمار الموالي فقير الأرومة والمنبت
فلا حسبي ينتمي للسماء، ولا رفعتني لها ثروتي
ولدت كآلاف من يولدون، بآلاف أيام هذا الوجود
لأن فقيرًا ـ بذات مساء ـ سعي نحو حضن فقيرة
وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية
وأما صاحب الصورة فهو إن كان الزمان منصفا لكان غنيًا عن التعريف، ولوضعت تلك الصورة كأغلفة للكتب الدراسية.. هذا يا ولدي عمك وعمي "صلاح عبد الصبور".
يقاطعني شيخ التأبين: فتنت به كـ"ليلى والمجنون".. تقرب إلى الله، صل ليرفع عنك الضلال.. صل لتسعد.
في كل ليلة أجمع أصدقائي وأعاود حكايتي أقصد محاكمتي لماذا لم يعش فينا نبي؟.. لماذا قتلنا صلاح عبد الصبور!.
"أقول لكم" بعض الرحلات لا تكون على الورق، لكنها تُنقش على متون الزمن، ربما لم يكن أمامه سبيل للحصول على جواز مرور إلى حيث يُحب سوى بالموت، فـ"الأميرة تنتظر" وهناك سيتمكن من "قراءة جديدة لشعرنا القديم".. ربما يعود لينعس تحت "شجر الليل" بعد أن "يموت الملك".

أما الآن فعليك أن تنهض يا ولدي.. تنهض في كل عام لتقرأ من جديد أعمال هذا العظيم، صاحب المأساة الذي شارف على الخمسين ومازال مسافرا في الليل وفي رحلة الضمير ليكتب لنا "نحن" حتى نقهر الموت.

 

أول السطر 


كان لقائه الأول بالورقة والقلم في مدارس مدينة الزقازيق التي ولد بها عام (١٩٣١م) في مدينة الزقازيق، حيث تلقى تعليمه قبل الجامعي بمدارس الزقازيق، وحصل على الشهادة التوجيهية ١٩٤٧، ثم التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية في عام ١٩٤٧ وتتلمذ فيها علي يد الشيخ أمين الخولي الذي ضمه إلى جماعة (الأمناء) التي كونها، ثم إلى (الجمعية الأدبية) التي ورثت مهام الجماعة الأولى. كان للجماعتين تأثير كبير على حركة الإبداع الأدبي والنقدي في مصر.
تعرّف في مقهى الطلبة في الزقازيق على أصدقاء الشباب مرسى جميل عزيز وعبد الحليم حافظ، وطلب عبد الحليم حافظ من صلاح أغنية يتقدم بها للإذاعة وسيلحنها له كمال الطويل فكانت قصيدة لقاء. تخرج صلاح عبد الصبور عام ١٩٥١ وعين بعد تخرجه مدرسًا في أحد المعاهد الثانوية ولكنه كان يقوم بعمله عن مضض حيث استغرقته هواياته الأدبية.


الطبشورة وبراجم إصبعه


لم يكن كما كان لو لم يكن مدرسا وأستاذا للغة العربية، فلين الحرف في براجم أصابعه يؤكد أنه صانعه وعاشقه بل مدرسه خطه لأجيال على سبورة المدرسة قبل أن يخطه على صفحة السماء وعلى جدران الحياة، نثره في الفناء بذورا ثم جمعه شجن وورود وإن كانت باكية فما زالت باقية عبقها يملأ الصدور، خرج عبد الصبور من سور المدرسة إلى حيز بلا سور وعدد أكبر من طلاب الحياة فعمل صحفيًا بمؤسسة (روز اليوسف)، ومؤسسة (الأهرام).. ثم انتقل إلى وزارة الثقافة، فعمل بإدارة التأليف والترجمة والنشر، ثم رئيسًا لتحرير مجلة السينما والمسرح، ونائبًا لرئيس تحرير مجلة الكاتب، ثم عمل مستشارًا ثقافيًا بسفارة مصر بالهند (١٩٧٧ – ١٩٧٨)، ولم يُضِع عبد الصبور فرصة إقامته بالهند، بل استفاد خلالها من كنوز الفلسفات الهندية ومن ثقافات الهند المتعددة وكذلك كتابات كافكا السوداوية. هذا إلى جانب تأثره بكتاب مسرح العبث، ثم عُين رئيسًا للهيئة المصرية العامة للكتاب.
أماكن مختلفة تُمحص الحرف وتدققه وتفتح آفاق أخرى ليكتمل رونق تجربته وتصنع له الحياة مدادا خصيصا لاسمه ليكون هو لا غيره.. صلاح عبد الصبور.
كان عضوًا بالمجلس الأعلى للثقافة، والمجلس الأعلى للصحافة، ومجلس اتحاد الكتاب، ومجلس أكاديمية الفنون، واتحاد الإذاعة والتليفزيون، شارك في (جماعة الأمناء) التي كونها أمين الخولي، كما شارك في تكوين (الجمعية الأدبية) مع عدد من نظرائه من دعاة التجديد.
يقول عن نفسه
«قصة حياتي مع الأيام ساذجة، ولدت في عام ١٩٣١ بإحدى مدن الوجه البحري، نشأت في أسرة ترتبط بالريف بأكثر من رباط، فأبي رغم أنه موظف، فإن له قطعة أرض يرعاها، وكثير من أقاربي فلاحون، وتلقيت التعليم في المدارس المدنية حتى حصلت على شهادتي الثانوية، ثم انتقلت إلى القاهرة وحدي، لأدرس الآداب في جامعتها، وتخرجت فيها عام ١٩٥١، واشتغلت بالتدريس ست سنوات، ثم هجرته إلى الصحافة.
كلماته تلك كانت من حوار له بمجلة "الآداب" أجراه معه الكاتب فاروق شوشة، ونشر بعددها رقم ١٠ الصادر بتاريخ ١ أكتوبر ١٩٦٠.
وتابع في ذلك الحوار: «أهم ما أذكر من صباي أني أرشد إخوتي، وللأخ الأرشد مكانة في بيتنا المصري، وقد تمتعت بذلك المكان، واعتدت أن توفر حاجتي وتلبي مطالبي، فلما جئت القاهرة بمجتمعها الصاخب ووحدتي فيها، أبهظني تحمل عبء حياتي الجديدة، وأنا في السادسة عشرة من عمري، ذلك لم يكن كل ما عانيت منه، لقد جربت اللقاء بين الريف الساكن والمدينة الغائرة الدم، وجربته كما يجريه الأحداث جميعًا.. جربته من قلبي».
ونستدعي صوته بجزء أخير: «مرضت بعد سنة من الجامعة مرضًا أقعدني ثلاثة أشهر، وردت إلى بلدي عليل البدن والروح، وأتاحت لي هذه الأشهر الثلاثة فرصة استجماع صباي، ومراجعة نفسي المشتتة، واهتزت في أوائلها كثير من المفاهيم التي ما لبثت أن استقرت، لتنمو جذورها الجديدة في نفسي بعد ذلك»، مضيفًا: «وأنا إنسان طائر القلب، أو هكذا كان صباي ومطلع شبابي، والحب لحياتي ضرورة، ولطالما عانيت منه، ولكن قل منه ما يرسخ في القلب».


لويس عوض وزوجة عبد الصبور


تقول سميحة غالب: "بعد زواجي من صلاح عبدالصبور دعوت الدكتور لويس عوض وزوجته إلى منزلنا كثيرًا، وفي هذه اللقاءات متعة الاستماع للويس عوض وصلاح عبدالصبور في كل شيء يتناقشان فيه، السياسة والأدب والفن، وكل ما يدور في العالم من أحداث، وفي إحدى هذه الدعوات باغتني لويس عوض بسؤال: لماذا تزوجت صلاح عبدالصبور؟، وظل واقفًا ينتظر الإجابة في جدية، وصلاح يقف مبتسمًا، واخترت له مقعدًا ليجلس أولًا وقبل أن يتلقى إجابتي قال مكملًا: "أنا أخاف على صلاح عبدالصبور من الزواج منك، أمامه رسالة أهم وأكبر بكثير من مسئولية علاقة زواج وأسرة وأطفال، لماذا لم تتركيه للشيء الأهم؟".
تواصل غالب: "قلت له يا دكتور هذا تنويه متأخر فالفأس وقعت في الرأس، وأمر صلاح إلى الله"، ولم تعجبه الدعابة ولم يبتسم، فالموضوع جاد وأبعاده أكبر بكثير من أن ينتهي بمداعبة فصلاح عبد الصبور يعني عنده مستقبل الشعر العربي، ولويس عوض ليس مهزارًا فحتى لحظات مزاجه يكون جادًا، فما بالك بموقفه من شيء يمثل همًا كبيرًا من هموم المثقفين، هم هذه المعارك الدائرة على الساحة الثقافية حول قضية الشعر الحديث ومسئوليته هو أمام تاريخ الأدب العربي كواحد من أكبر نقاد العالم العربي وتبنيه لقضية هذا الشعر الحديث. « من حوارها لروز اليوسف عام ١٩٩٠».
وفي حوار آخر لها ذكرت السيدة سميحة غالب «إن صلاح عبد الصبور لم يكن يملك إلا راتبه، وبالطبع فإن التفرغ للكتابة وهجر الوظيفة كانا يتطلبان ترتيب الأمور المالية التي كان ينفق منها على بيته وابنتيه».
وتابعت: «وذلك منذ أن تخرج في الجامعة وعمل مدرسا ثم صحفيا ثم موظفا بهيئة الكتاب، لكن الوظيفة أكلت أيامه، وقتلت وقته، ومن أجلها أو بسببها طعنته كلمات مسمومة قاتلة».

 

بنات عبد الصبور

«خلاص هتسيبي المدرسة ونوديكي معهد دودة القطن، تعمليلنا مراتب ومخدات من القطن أحسن».
تحكي في حوار سابق لها بجريدة الأهرام عن حس والدها الفكاهي فتقول: أبرز تلك المواقف، عندما كنت في المرحلة الابتدائية، وحصلت على ٤ من ٢٠ في اختبار النحو، وعدت إلى البيت منزعجة وقلقة من رد فعل والدى، لكننى فوجئت بأن والدى يمازحنى قائلًا عبارته السابقة، فازدادت دهشتى من رد فعل والدى، وجديته المختلطة بالفكاهة.
معتزة عبد الصبور فنانة موهوبة تربت في كنف رجل يشار إليه بالبنان ورأت في منزله الكثير من القامات.. افتخرت وانكسرت.. فرحت وتألمت لذا تحمل كلماتها الكثير من الشجن وهي تتحدث عنه والدها: «صلاح عبد الصبور قيمة كبيرة لا يستطيع أحد أن يمنعه، أو يقلل من قيمته الفنية والأدبية، ولو لم يكن يقدم بالشكل الكافي، ليس خطأ في حقه، وإنما خطأ في حق الشباب، وجريمة في حق الشباب، وليس الكاتب، لأن عبدالصبور عالميًا لا يستطيع أحد أن يوقفه، فهو يُدرّس عالميًا».
جدير بالذكر أن للشاعر صلاح عبد الصبور له ابنة أخرى تدعى «مي» وهى شاعرة مرت بظروف صعبة، وأشهر قصائدها تلك التي رثت فيها أبيها وهاجمت المثقفين الذين يتشدقون بأمجاده ويتجاهلون ظروفها القاسية وجاء فيها: 
للنصِّ الكاذبِ.. عادَ الشاعرُ أدْراجَهْ.. قد أغفلَ مما أغفلَ
وهو السائرُ في المعتادِ ـ الموءودةَ
والمطرودةَ والمُحتاجَهْ
لكنْ إحداهُنَّ وقدْ صرختْ
دخلتْ في النصِّ برغمِ الشاعرِ
لتحاولَ إحراجَهْ
بصَقتْ بين الكذّابينَ عليهِ
إذْ عرفَ الداءَ
ولم يعرفْ وهو المعلومُ علاجَهْ
دخلتْ في النصِّ لتكشفَ عنْ سوأتِكم يا رُوَّادَ المقهى
وكبار المسئولين وعُشّاقِ أبيها..
ومن الهامشِ بالتْ
في منتصفِ النصِّ عليكم
بالتْ
فوق شعاراتِ الحريّةِ
وحواراتِ الليبراليةِ
والجعجعة الجوفاء وقالتْ:
يوصيكمْ في أولاد الشاعر
لو يعلمُ ما آلتْ قرَّةُ عينيهِ إليهِ؛
لانتفضَ،
ومزَّق أكفانَ الغربةِ،
أو عطَّل وهو الصاعدُ للسدرةِ مِعْراجَهْ
للولدِ النصفُ من الإحسانِ
وللبنتِ النصفُ،
وإنْ كانتْ «مىُّ» ابنةُ سيدِكم
فلها الكلُّ
وللعالمِ ما تركَ الشاعرُ
بئس اللحظةُ إذْ تلقي
بعزيز القومِ لوحشينِ الغربةِ و«الحاجَهْ».
وابنةُ سيّدِكم يا أبناء...
تنام على الأرصفةِ معَ «أعمالِ أبيها الكاملةِ»
تتسولُ بعضَ الحبِّ
وبعضَ التقديرِ ابنةُ سيّدِكم
في فيلمٍ عبثىٍّ
منكمْ من كتبَ النصَّ.. ومنكم من يتولَّى إخراجَهْ
مىُّ هناك على الهامش تهرب منكمْ
وبقلب الظلمةِ
تبحثُ عنْ ضوءِ أبيها
يا منْ تحتكرونَ سِراجَهْ
دخلتْ في النصِّ
لتصرخَ:
كيفَ الشاعرُ
يكتبُ عن مأساةِ الحلاجِ
وينسى مأساةَ الحلاجَهْ».


صلاح عبد الصبور أجمل الشعراء

ومن مي إلى الدكتور محمد أبو الغار الذي كتب شهادته عن صلاح عبد الصبور مُفعمة بالحب إذ قال: هذا المبدع العظيم أمتعنا وأسعدنا وأبكانا. فى فترة قصيرة من العمر أبدع عبد الصبور دواوينه الثلاثة الأولى التى هزت مشاعرنا فى شبابنا، وهى الناس فى بلادى، وأقول لكم، وأحلام الفارس القديم. وانتقل بعدها إلى المسرحية الشعرية فأبدع أعمالًا خالدة، وحقق ما آمن به الإغريق بأن الشعر قد خلق للمسرح. وحقق نجاحًا مبهرًا بكتاباته لمسرح شعرى حقيقى متقدم بمراحل عن مسرح شوقى من الناحية الدرامية والمسرحية. 
وتابع أبو الغار في شهادته التي نشرها في مقالا له بجريدة المصري اليوم: «أتحدث أولًا عن صلاح الإنسان فى تجربة شخصية. حين كنت مدرسًا فى قصر العيني كونت مع مجموعة نشطاء الطلاب أسرة جامعية، بعض أعضائها كانوا يكتبون الشعر، وطلبوا منى أن أساعدهم فى مقابلة صلاح عبد الصبور الشاعر الكبير آنذاك، فحصلت على رقم تليفون منزله، واتصلت به، وطلبت منه مقابلة الطلبة، فلم يتردد، ودعانى إلى منزله، وحضرنا وشربنا الشاى وأكلنا الجاتوه، واستمع إلى أشعار الطلاب وعلق عليها، ولم يكن يعرفنى أو سمع باسمى من قبل».
ويواصل: لقد قرأت أعمال عبد الصبور مرات ومرات فى زمن الصبا وشاهدت جميع مسرحياته على المسرح باستثناء مأساة الحلاج. ولا زلت أذكر مسرحية «بعد أن يموت الملك» والتى كان بطلها ملك ديكتاتور سفاح لم يصدق أحد أنه مات، وظل الجميع خائفين ومرعوبين منه بعد أن مات، وكانت بطلة المسرحية برلنتي عبد الحميد، وذلك بعد سنوات من وفاة عبد الحكيم عامر. وذهلت لأنني كنت أظنها ممثلة إغراء تافهة، فوجدتها ممثلة قديرة متميزة، وتقرأ دورها الشعرى باقتدار وبدون خطأ واحد فى مسرحية طويلة. تحكى كيف تصرفت الحاشية والزوجة وشاعر الملك، فى عمل مسرحى حقيقى ممتع. وفيها يقول الملك:
ما هذا يا قاضى السوء/ مادمت أنا صاحب هذى الدولة/ وأنا الدولة.. أنا ما فيها، أنا من فيها..
أنا بيت العدل، وبيت المال، وبيت الحكمة/ بل إنى المعبد والمستشفى والجبانة والحبس/ بل إنى أنتم، ما أنتم إلا أعراض زائلة تبدو فى صور منبهمة/ وأنا جوهرها الأقدس.
ويواصل: «ذهبت لمشاهدة مسرحية مسافر ليل، وكان ديكور المسرح عبارة عن عربة قطار فى حديقة دار الأوبرا أمام مسرح الهناجر، وهو مماثل لوصف الديكور فى المسرحية، ولم يسمح الديكور داخل العربة إلا بعدد محدود من المشاهدين داخل العربة مع الممثلين، وهم ثلاثة فقط، الراوى والمسافر وعامل التذاكر، وسماها عبد الصبور كوميديا سوداء وكان عرضًا رائعًا ومتميزًا».
ويختتم: «لازلت أذكر ليلى والمجنون، وقعت فى غرامها، وقرأتها مرات، وشاهدتها على المسرح. وتدور أحداثها فى دار صحيفة صغيرة تصدر قبل عام ١٩٥٢، محرروها من الشبان والشابات، أحدهم معتقل والباقون يكتبون بشجاعة مطالبين بالحرية، ويقعون فى الحب. أنقل إليكم بعضًا من المسرحية الممتعة: 
ما تملكه يا مولاى الشاعر/ لا يطعم طفلًا كسرة خبز/ لا يسقى عطشانًا قطرة ماء/ لا يكسى عُرْى عجوز تلتف على قامتها المكسورة.
وعن الثورة: رفقًا حسان/ ما تذكره ليس هو الثورة/ الثورة أن تتحرك بالشعب/ إنى لا أعرف معنى هذه الكلمة/ لكنى أعرف معنى البيت ومعنى الثوب ومعنى اللقمة/ أعرف معنى وَجْد امرأة هرقة/ تنتظر بقلب ذائب/ أن يرتفع الدلو بعائلها من بئر السلطة/ أو أن يتثاءب باب السجن عن الولد الغائب/ تلهو الشرطة بحسام كما يلهو المجنون بدمية.


صلاح عبد الصبور والشعر الحر

كان زهران غلاما
أمه سمراء، والأب مولّد
وبعينيه وسامه
وعلى الصدغ حمامه
وعلى الزند أبو زيد سلامه
ممسكا سيفا، وتحت الوشم نبش كالكتابه
اسم قرية
( دنشواي)

ودع صلاح عبد الصبور الشعر التقليدي ليبدأ السير في طريق جديد تمامًا تحمل فيه القصيدة بصمته الخاصة، زرع الألغام في غابة الشعر التقليدي الذي كان قد وقع في أسر التكرار والصنعة فعل ذلك للبناء وليس للهدم، فأصبح فارسا في مضمار الشعر الحديث. بدأ ينشر أشعاره في الصحف واستفاضت شهرته بعد نشره قصيدته شنق زهران وخاصة بعد صدور ديوانه الأول الناس في بلادي إذ كرسه بين رواد الشعر الحر مع نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وسرعان ما وظف صلاح عبد الصبور هذا النمط الشعري الجديد في المسرح فأعاد الروح وبقوة في المسرح الشعري الذي خبا وهجه في العالم العربي منذ وفاة أحمد شوقي عام ١٩٣٢ وتميز مشروعه المسرحي بنبرة سياسية ناقدة لكنها لم تسقط في الانحيازات والانتماءات الحزبية. كما كان لعبد الصبور إسهامات في التنظير للشعر خاصة في عمله النثري حياتي في الشعر. وكانت أهم السمات في أثره الأدبي استلهامه للتراث العربي وتأثره البارز بالأدب الإنجليزي.

 

ميراث صلاح عبد الصبور الفني

احرصْ ألا تسمعْ
احرصْ ألا تنظرْ
احرصْ ألا تلمسْ
احرصْ ألا تتكلمْ
قفْ!…
وتعلّقْ في حبل الصمت المبرمْ
ينبوع القول عميقْ
لكن الكفَّ صغيرةْ
من بين الوسطى والسبابة والإبهامْ
يتسرّب في الرملِ.. كلامْ

ترك آثارا شعرية ومسرحية أثرت في أجيال متعددة من الشعراء في مصر والبلدان العربية، خاصة ما يسمى بجيل السبعينيات، وجيل الثمانينيات في مصر، وقد حازت أعماله الشعرية والمسرحية قدرا كبيرا من اهتمام الباحثين والدارسين، ولم تخل أية دراسة نقدية تتناول الشعر الحر من الإشارة إلى أشعاره ودواوينه، وقد حمل شعره سمات الحزن والسأم والألم وقراءة الذكرى واستلهام الموروث الصوفي، واستخدام بعض الشخصيات التاريخية في إنتاج القصيدة، ومن أبرز أعماله في ذلك: " مذكرات بشر الحافي" و" مأساة الحلاج" و" ليلى والمجنون"، كما اتسم شعره من جانب آخر باستلهام الحدث الواقعي، كما في ديوانه: " الناس في بلادي".
جوائز
جائزة الدولة التشجيعية عن مسرحيته الشعرية (مأساة الحلاج) عام ١٩٦٦.
حصل بعد وفاته على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام ١٩٨٢.
الدكتوراه الفخرية في الآداب من جامعة المنيا في نفس العام.
الدكتوراه الفخرية من جامعة بغداد في نفس العام.