الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الأزمتان الكوبية والأوكرانية...تباينات وتوافقات تفاوضية (2-2)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

الأزمتان تشتركان في تعرُض المصلحة الحيوية لدولة عظمى لخطر داهم. وإن كان الأمر معكوسا. ففي الأزمة الأولى كانت الولايات المتحدة هي المُهددة من الاتحاد السوفيتي وفي الثانية كانت روسيا هي المُهددة من أمريكا وتابعيها. وفي الأولى وقع التعرض فعلا، بوجود قواعد الصواريخ في كوبا، وفي الثانية كان التعرض على حافة الوقوع، إذا ما انضمت أوكرانيا لحلف الناتو [وتكشف بعد ذلك، أن مخططات أخرى خطيرة بين أوكرانيا والغرب، كانت تُحاك ضد روسيا].


كنا في الحلقة الأولى من المقال قد ذكرنا 9 عوامل من أصل 20 عاملا لبيان الاختلاف والتوافق التفاوضي في تناول الأزمتين الكوبية والأوكرانية، وإليكم الـ 11 عاملا الآخرين:

10ـ السرعة والحسم في اتخاذ القرار: كان الرئيسان كنيدي وخروتشوف حاسمين وغير متباطئين في اتخاذ القرارات مما أنهى الأزمة في 13 يوما. وفي الأزمة الأوكرانية كان الرئيس بوتين واضحا وحاسما في طلباته، لكنها جاءت في ظروف ضجيج وشحن سياسي وعسكري وإعلامي، ومن ثم تباينت ردود الأفعال بشأنها، وتم التعامل معها بشكل عدائي وليس عقلانيا. ومن ثم  وعلى العكس كانت قيادات الدول الغربية وحلف الناتو، مما ساهم في تفاقم الأزمة وانفجارها.
11ـ استخدام وتوظيف عامل الوقت: في الأزمة الكوبية تم استغلال عامل الوقت بكفاءة منقطعة النظير من كلا الجانبين. وهو عكس ما تم في الأزمة الأوكرانية.
12ـ الرغبة المشتركة في الوصول إلى حل: كانت هناك رغبة أمريكية في الوصول إلى حل سلمي في الأزمة الكوبية، ورفض الرئيس الأمريكي جميع الضغوط والمقترحات بشن غارات جوية لتحطيم قواعد الصواريخ. وما لبث الاتحاد السوفيتي أن تخلى عن مقاومته لإزالة قواعد الصواريخ والطائرات القاذفة، وتم حل الأزمة مقابل مكاسب في نقاط أخرى. بينما في الأزمة الأوكرانية نجد تمسك كل طرف بمواقفه، مع وجود أجندات أخرى للأطراف تساهم في تعقيد الحل. وأيضا وجود أطراف  ومصالح متداخلة لا تهيء أرضية للحل. 
13ـ موقف الدول من الأزمة:  كانت الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي ووجود حلفا الناتو ووارسو وحركات التحرر من الاستعمار وتيار عدم الانحياز هي السائدة أيام الأزمة الكوبية. وقد تضامنت منظمة الدول الأمريكية مع الولايات المتحدة، وقدمت دعما حربيا محدودا لعملية الحجر البحري حول كوبا، كما استعدت دول حلف الناتو لاحتمال قيام الاتحاد السوفيتي بالرد العسكري في أوروبا إذا ما هاجمته أمريكا في كوبا. أما في الأزمة الأوكرانية فقد كانت لغة المصالح الاقتصادية والهيمنة الأمريكية وسلاح المعونة والخوف من العقوبات  والمعاناة من الأزمات والمشاكل الداخلية والخوف من التهديدات وتسخين النزاعات الداخلية والتهديدات الإقليمية والتحديات السياسية والاقتصادية هي السائدة بين الدول الخارجة عن الصراع المباشر. ووقفت أمريكا والمملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو واستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ضد روسيا. 
14ـ الخط الساخن: بعد النجاح في حل الأزمة الكوبية سلميا في أكتوبر 1962 وبعد توقيع معاهدة حظر التجارب النووية في 5 أغسطس 1963، أصدر البيت الأبيض في 30 أغسطس 1963 بيانًا مفاده أن خطا ساخنا بين واشنطن وموسكو تم تدشينه، لأجل  تقليل مخاطر الحرب التي تحدث عن طريق الصدفة أو سوء التقدير، وذلك بدلًا من الاعتماد على الرسائل المشفرة التي تستغرق وقتا. وأن الخط لن يستخدم إلا في حالات الطوارئ على مدى 24 ساعة 7 أيام في الأسبوع. وفي الأزمة الأوكرانية تمت إضافة خط ساخن بين الجيشين الأمريكي والروسي، لضمان عدم حدوث خطأ عشوائي غير مقصود.
15ـ حافة الهاوية: كان الرئيس كنيدي واضحا وحاسما وصريحا في رسالته إلى الاتحاد السوفيتي والعالم، بأن الولايات المتحدة لن تسمح بوجود الصواريخ في كوبا. وقد وصلت الرسالة "دفعة واحدة دون تشويش أو زيادة أو نقصان" والتقطتها وفسرتها القيادة السوفيتية بشكل صحيح وتم حل الأزمة. وفي رأيي ـ المخالف للرأي السائد بين جميع السادة الخبراء ـ أنه بفرض قيام أمريكا بضرب قواعد الصواريخ في كوبا، لم يكن ذلك ليشعل حربا نووية. لأن الاتحاد السوفيتي سيؤمن أنه المخطئ وأنه كذب على أمريكا وأعلن أنه لم يرسل أى صواريخ ولم يبن أى قواعد، وأعاد جروميكو وزير الخارجية السوفيتي تأكيد النفي عندما التقى مع الرئيس كنيدي. كما أن الانتقال بصواريخ نووية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، هو بمثابة إعلان حرب، ومن المنطقي أن ترد الولايات المتحدة. كما أن ضرب كوبا بفرض حدوثه، لن يمس الكتلة السوفيتية ولا بلاد حلف وارسو، وأضراره ستكون محدودة الأثر. أضف إلى ذلك أن الطموحات الأمريكية والطموحات السوفيتية كانت في أوجها، أمريكا تريد وضع إنسان فوق القمر ونشر مبادئ العالم الحر. والقيادة السوفيتية مؤمنة بالمد الشيوعي واندحار الاستعمار. وبالتالي لم يكن لأي منهما التفريط في تلك الطموحات، لمجرد معركة محدودة على أرض جزيرة ضئيلة. أما رسالة بوتين إلى الغرب فلم تصل "صافية مباشرة" فقد صاحبها لغط وتشويش إعلامي وسياسي من الغرب، كما صدرت وسط مخططات معدة مسبقا من الغرب ضد روسيا ومن روسيا ضد الغرب، وبالتالي كان للغرب موقف مسبق من رسائل بوتين. 
16ـ الأمم المتحدة ومجلس الأمن: كان للأمين العام للأمم المتحدة أوثانت وللجان الأمم المتحدة دورا في الإشراف على تنفيذ اتفاق تفكيك الصواريخ في كوبا وترحيل الطائرات القاذفة الروسية على ظهر سفن الشحن وكذا في تفكيك الصواريخ الأمريكية في تركيا عام 1963. أما في الأزمة الأوكرانية فيمكن القول باختصار أن تأثيرات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، اقتصر  دورهما على كونهما منابر خطابية لتبادل الاتهامات أو ساحات تصويت غير فعالة.
17ـ صاحب الرأي النهائي: كان جون كنيدي وخروتشوف هما اللاعبان الرئيسان في الأزمة الكوبية. وكان بوتين وبايدن هما اللاعبان الرئيسان في الأزمة الأوكرانية، يشاركهما بدرجة أقل ماكرون وجونسون وهيئة مكتب الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي وزيلنسكي ورؤساء كندا واليابان واستراليا. 
18ـ القيادات: في الأزمة الكوبية كان جون كينيدي ونائبه ليندون جونسون ووزير الخارجية دين راسك ووزير الدفاع روبرت مكنامارا ووزير العدل روبرت كينيدي. وفي الجانب السوفيتي رئيس الدولة/ رئيس الوزراء خروتشوف، ورئيس  مجلس السوفيت الأعلى بريجينيف، وزير الخارجية جروميكو والمرشال بطل الاتحاد السوفيتي وزير الدفاع مالينوفيسكي. وكلهم من الخبرات الثقيلة. وفي الأزمة الأوكرانية معروف من هي القيادات. ونترك للقارئ التقدير والمقارنة.
19ـ الحرب الاقتصادية: قبل الأزمة شن أيزنهاور حربا اقتصادية على كوبا، وقام كاسترو بتأميم الممتلكات والشركات الأمريكية. وتم قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1961، حتى تمت إعادتها على يد أوباما وراؤول كاسترو عام 2014!!. وفي الأزمة الأوكرانية تفتقت أذهان الغرب عن كل صنوف العقوبات كبيرة وصغيرة، معتادة وغير معتادة.

20ـ إسالة الدماء: في الأزمة الكوبية تم إسقاط طائرة تجسس أمريكية فوق كوبا يوم 27 أكتوبر وقُتل الطيار، ورفض كينيدي الرد [رغم ضغوط فريق معاونيه المدنيين والعسكريين]، واعتبر إسقاط الطائرة خطأ غير مقصود، وتم حل الأزمة سلميا في اليوم التالي!! وفي الأزمة الأوكرانية ما زلنا في البدايات، وملايين اللاجئين والمشردين وآلاف القتلى والجرحى ومليارات الخسائر المادية، و"الأسوأ قادم" كما قال الرئيس الفرنسي ماكرون.
ومما تقدم نجد أن جون كينيدي ونيكيتا خروتشوف من جانب، تفوقا على بوتين وبايدن وقادة أوروبا في الجانب الآخر. وأن بوتين تفوق على بايدن وتابعيه دون انتظار لنهاية الرواية الدرامية. حيث شئنا أم أبينا، فقد انهدمت مخططات الغرب في أوكرانيا لتفكيك روسيا، وهو مخطط أنفق فيه الكثير من الجهد والوقت والمال، وما البحوث البيولوجية إلا مثال بسيط. كما أن اللواء الذي يحمله الغرب دفاعا عن قيم الحرية والديمقراطية والعدل والمساواة وحقوق الإنسان، قد سقط سقوطا ذريعا في أعين أبناء العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، بعد أن ظهر أن الغرب يعطي قيمة كبرى للدماء والأرواح الأوكرانية الأوروبية، ولا يقيم وزنا ولا يعطي أدنى قيمة للدماء والأرواح من الشعوب الأخرى.

ورغم مرور 62 عاما على الأزمة الكوبية، فما زالت الدروس ماثلة. كما أحب هنا أن أشير إلى أن علماء وجهابذة علوم وفنون التفاوض في جامعات هارفارد وMIT وستانفورد لم يتفقوا على من فاز في أزمة الصواريخ الكوبية. بعضهم قال أمريكا والبعض قال روسيا والبعض قال كلاهما، وبعضهم قال نظام كاسترو، والذي ظل يحكم 50 عاما عاصر معها 10 رؤساء أمريكيين!!، امتنع 8 منهم، عن اتخاذ أو اعتماد أي خطط لإسقاطه، التزاما بما تم الاتفاق عليه بين كينيدي وخروتشوف، حتى ترك فيدل كاسترو الحكم طواعية لمرضه [وبالمناسبة لفظ "فيدل" ليس اسما له، لكن كلمة معناها "القائد"] ومن سخريات القدر أن لعنة النجاح الساحق في حل الأزمة الكوبية سلميا في أقصر فترة زمنية ممكنة وبخسائر لا تذكر، قد حلت على بطليها [جون كينيدي تم اغتياله في يوم الجمعة 22 نوفمبر 1963. ونيكيتا خروتشوف، تم استجوابه ومواجهته في مؤتمر حزبي حاشد، انتهى بتنحيته عن جميع مناصبه في يوم الأربعاء 14 أكتوبر 1964].