الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أنشودة على أنغام الصواريخ

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

"هتعشي إيه ليلة الدخلة يابا الحج".. بمجرد أن هدأت عاصفة تلك المعركة الحامية على ذلك الممر، لم ينتظر "مسعد أبو السعد"، ذلك النجار الدمياطي الصغير، والذي جاء من بحري ليدافع عن تراب وطنه طويلًا، بأنفاس مشبعة برمال سيناء، وبصوت مرح لم يخلو من الجدية أطلق الفتي ذاك التساؤل الذي بدا وكأنه محور حياته، راجيًا قائده أن يُخرجه من تلك الورطة، لم يجد الشاويش "محمد" سوى كتم ضحكة كادت أن تفلت منه، أطلت من وجه "مسعد" نظرة طفل بريء سُلب لعبته المفضلة.

"متهيألي يا مسعد الفراخ ظريفة"، بابتسامة خافتة تخفي وراءها ضحكة أبت أن تخرج من شفتيه، جاءت إجابة "شوقي"، رفيق السلاح، لتُخرج الفتي "مُسعد" من تلك الحالة الغاضبة، فعادت إلي وجهة تلك الابتسامة الطيبة قائلًا بصوت خبيث: "لالالا فراخ إيه يا عم شوقي.. دا فيه ناس قالت لي إن السمك كويس أوي في ليلة مفترجة زي دي"، ليتخلي الجميع عن وقاره وألمه وعطشه ضاحكين، وقد تناسوا أمر تلك المعركة الدامية.

منذ ما يقرب من نصف قرن، وتحديدًا في العام 1972، قدم لنا الثنائي العبقري، الكاتب والسيناريست مصطفي محرم، والمخرج علي عبدالخالق، واحدة من أروع الأعمال السينمائية في التاريخ المصري، إن لم تكن أروعها علي الإطلاق، "أغنية على الممر"، إحدى مسرحيات الكاتب العظيم علي سالم، ليصنعوا أعظم مشاهد البطولة للجندي المصري، ومدى كفاحه عقب نكسة لم يشاركوا فيها، البطولة هنا لم تكن في الصمود والحفاظ علي الموقع من السيطرة الإسرائيلية، ولكنها في الجانب الإنساني للمواطن المصري البسيط، فخرجت الصورة بتلك الواقعية التي جسدها أبطال من تراب وطين هذا البلد.

"نفسي يبقي عندي بيت صغير.. وعيلين.. وبطانيتين صوف.. وأدفي بقي".. لم ينس "مسعد"، والذي برع في أداء دورة الفنان العظيم صلاح السعدنى، تلك اللحظة الرومانسية مع حبيبته التي تركها ليدافع عن وطنه، بعيني صقر حادتين راح يراقب ذلك الممر من أعلي حصن الصخري، وكإنسان راح يتذكر حب عمره الذي حلم به، ليستأنس بها وحشة تلك الصحراء القاحلة، والجبال الصماء، يحلم باللحظة التي سيعود إليها ليحقق ذلك الأمل الذي وعدها به، "بيت صغير، وعيلين، وفوقهم بطنيتين صوف، ويدفى بقي ابن المحظوظة"، حقا هو حُلم بسيط، لكنه بالنسبة له كان أملا عظيما، بمجرد أن تضع الحرب أوزارها سيعود إلي قريته ليحققه بكل تفاصيله التي يخطط لها منذ أن كان صغيرًا.

المشكلة التي كانت دائمًا ما تؤرق الجندي مجند مسعد أبو المعاطي، ولم يجد لها حلًا، هي إنه "هيتشعى إيه ليلة الدخلة"، لا تتعجبوا فقد كانت تلك هي كل مشاكل هذا الفتي الصغير، وفقًا لرؤيته فليلة مفترجة كتلك يجب أن يكون لها طقوس خاصة، وإلا ضاعت بركاتها، ويفشل في تحقيق حلم "العيلين"، وبدل ما يشتري بطانيتين يوفر بطانية، ضاحكًا، تذكر موقف تلك الحبيبة تعيسة الحظ، وكيف أنها أصرت ألا يذهب إلي الجبهة قبل أن يكتب عليها، "تقولش لقت لقية"، لكن تظل المشكلة، لقد انتهي من كل شيء تقريبًا، حتي فرش البيت الصغير صنعة علي يده، مهو أسطي نجار دمياطي أصيل، وقامت حبيبته بتفصيل الستائر، لكن ما يحير هذا الصغير، "هيتعشي أيه ليلة الدخلة".

منذ سنوات ليست بالبعيدة، وأثناء تواجدي بأحد مراكز التدريب العسكري بالقاهرة، أنتظر أخي الذي أصبح جنديا بالقوات المسلحة، هالني ما رأيت، شباب صغير، ينطلق خارجا بزيه المموه، زادتهم سمرة شمس يوليو الحارقة صلابة الفراعين الأولين، تعلو وجوههم المشرقة بسمة لم تفارق شفاههم، بريق عيونهم الجذلة تشعرك أنهم ما عانوا مشقة قط، اقبلوا فرحين ليس للقاء الأهل والأقارب، ولكن لاستقبال ما لذ وطاب، حتي أخي، كفهد جائع انقض علي  ما نحمله من طعام وكأنه صيد ثمين، تذكرت مقولة والدي -رحمه الله- "يا بني الحياة علي الجبهة شيء أخر.. الموت هناك هو القاعدة وما عدا ذلك استثناء"، تلك اللحظة فقط، أدركت السبب الحقيقي لتلك الحالة التي ظهر عليها شباب ظلوا 45 يوما وسط الصحراء، نفس الوجه البشوش، نفس الضحكة الجذلة، حتي بريق العينين، لا يختلف كثيرًا عن "مسعد أبو المعاطي" في أغنية علي الممر، كان لديهم نفس الحلم، فانقضوا علي ما نحمله من طعام.

"أنا راجع.. مسعد أبو المعاطي ميموتش أبدًا.. بشرفي لنعمل حتة دين دخلة محصلتش".. أعلي التبة أمسك سلاحه العتيق متحفزًا، بين الحين والأخر يبتلع ريقه الذي جف، فطيلة يومين كاملين لم يدخل جوفه شربة ماء، وحر شمس يونيو لم ترحم ضعفه، كأرض بور تشققت شفتيه، كان يحلم بشربة ماء، علي يمينه انهمك حمدي في تلحين قصيدة النصر، بين الفينة والأخرى يطلق صفيرًا معبرًا عن فقرة أو حتي جملة، فتذكر وعده لحبيبته عن "الدخلة اللي محصلتش"، فابتلع ريقه بصعوبة كادت تجرح أمعاءه، ثم إلتفت الي رفيق سلاحه مازحًا: "بشرفي يا حمدي لتحي الفرح بتاعي"، كالعادة يطلق الجميع العنان لضحكات بائسة لحفة ظل ذلك الفتي الصغير، علها تروي ظمأ عطش السنين.

انتبه مسعد فجأة إلي ذاك الصوت المعدني، مُعتدي إسرائيلي أثيم، يُطلق تحذيره بسرعة تسليم الموقع وإلا سينسفونه، كان بين خيارين كلاهما أحب إلي نفسه من روحه، بين أن يُخرس ذلك المُحتل الي الأبد ويخسر حياته، وبين أن يفي بوعده لحبيبته ويخسر وطنه، لم يطل الإنتظار، فقد أدرك أن وطن ضائع لا يمكن معه الحلم بالبيت الصغير، ولا بالعيلين، ولا بالبطانيتين، وطن ضائع لا يمكن أن يشعر معه بدفء العيلة وحب العيلين، فانطلق صوب صاحب التهديد ليُخرسه الي الأبد، وقبل أن يحتفل بنصره جاءته رصاصة الغدر ليقضي نحبه.

مات مسعد أبو المعاطي، مات قبل أن يجيبه قائده الشاويش محمد، أو رفيق سلاحه الذي سخر منه من قبل، هيتعشي إيه ليلة الدخلة، تلك الليلة المفترجة التي يحلم بها منذ سنوات، صعدت روحة إلي السماء دون أن يحقق حلمه، سكنت أنفاسه إلي الأبد، تلاشي مرحه الذي اشتهر به بين أقرنائه، ضاعت ضحكته وبقيت ضحكة حبيبته، ولأنه ذلك الفتي الشقي، لم يكن صعوده الي السماء كأي صعود لشهيد من قبل، راح يرقص ويتغني بأنشودة الخال عبدالرحمن الأبنودي، "أبكي.. أنزف.. أموت.. وتعيشي يا ضحكة مصر.. وتعيش يا نيل يا طيب.. وتعيش يا نسيم العصر.. وتعيش يا قمر المغرب.. وتعيش يا شجر التوت.. أبكي أنزف أموت وتعيشي يا ضحكة مصر".

الحقيقة إنه رغم قله ما تم انتاجه من أعمال سينمائية تؤرخ وتسجل إنجازات جيشنا المصري العظيم في حرب أكتوبر المجيدة، يظل فيلم "أغنية على الممر"، أحد أفضل الأعمال التي سجلت حياة الجندي المصري قبل أن ينطلق إلي الجبهة، وكيف أنه ضحي بأبسط أحلامه من أجل أن يعيش وطن قادر أبنائه علي جني ثمار تضحياته، وهو ما نحتاج إليه دائمًا، فحرب أكتوبر وما سبقها من حروب الاستنزاف والنكسة، بها المئات بل الآلاف من الحواديت والقصص الأسطورية التي تكشف عن بسالة الجندي المصري، ذلك الشاب الذي تخلي عن فأسه وأرضه، عن مفكه وشاكوشه وورشته، عن فصله في المدرسه، عن عمله أينما كان، ليقف علي الجبهة مدافعًا عن عرض وشرف أمة، هُزمت دون أن تشارك في حرب كُتب عليها نكسة.