الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

الدكتور حاتم الجوهري يكتب: انتفاضة القدس

حاتم الجوهري
حاتم الجوهري
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ما يحدث في فلسطين هو الصراع على مخلفات "صفقة القرن"، وقرار دونالد ترامب في فترة ولايته للرئاسة نقل السفارة الأمريكية للقدس، ومحاولة فرض الهيمنة الصهيونية على الأرض المقدسة فيها، وتحديدا على بناء المسلمين في الأرض المقدسة الذي يُعرف بـ"المسجد الأقصى"، حيث يدعي اليهود أنه أقيم موضع البناء القديم الخاص بهم المسمى بـ"الهيكل"، دون دليل أثري ودون رواية أو شاهد تاريخي يدعم هذا الادعاء.
ولقد تفجر هذا الصراع من قبل أثناء الصفقة في ظل سياسة ترامب القديمة لتمرير "صفقة القرن"، قبل ان يرحل، تفجر عندما اتفضت دماء المقدسيين وأهل فلسطين دفاعا عن "المسجد الأقصى" وبناء المسلمين في الأرض المقدسة. ربما نجح ترامب عبر سياسة "تفجير التناقضات" العربية في تمرير نقل السفارة للقدس، عبر الضغط على الدول العربية الكبرى في مختلف الملفات، لكن الفلسطينيون حينها اوقفوا محاولات الصهاينة السيطرة على "المسجد الأقصى".
كما أن ظهور محور الاتفاقيات الإبراهيمية الجديدة متبنيا لخطاب الاستلاب للرواية الصهيونية في الصراع والخضوع لها، وهو المحور الذي تقف على رأسه الإمارات والسعودية مع ولي العهد الجديد.. خلق نوعا من الصدام مع محور اتفاقيات السلام القديمة التي مثلتها مصر والأردن. محور اتفاقيات السلام القديمة كان يقوم على تطبيع سياسي تبعه بعض العلاقات الاقتصادية في ظل ما عرف بـ"اتفاقيات الكويز"، لكن مع وجود تحفظ شعبي شديد وقوي ضد تطبيع العلاقات على المستوى الشعبي والعام. في حين محور الاتفاقيات الإبراهيمية الجديدة مع صفقة القرن، كان يمرر للخضوع للرواية الصهيونية الدينية تحت اسم المشترك الديني الإبراهيمي بين المسلمين واليهود، والتصور المسيحي الصهيوني الذي تعود جذوره للمذهب البروتستانتي المسيطر في أمريكا وبريطانيا، والعديد من الدول التي تنتمي لما عرف قديما بالقبائل الجرمانية أو دول شمال أوروبا البرابرة بذهنيتهم المتطرفة العنصرية، التي شكلت معظم المتلازمات والعُقد الثقافية للنموذج الأوربي، أو ما يمكن تسميته بـ:"المسألة الأوربية".
اللحظة الحالية لتفجر "انتفاضة القدس" تعود للوراء قليلا، حيث حاول الصهاينة التأكيد على مكتسبات "صفقة القرن" ومخلفاتها، عندما حاولوا استبعاد مدينة القدس من الانتخابات الفلسطينية، لينتفض المقدسيون رفضا لمحاولة الصهاينة تثبيت مكتسبات صفقة القرن، وفي خلال الشهر الكريم حاول الصهاينة التضييق على حضور المصلين للأرض المقدسة في "المسجد الأقصى"، واندلعت المواجهات بينهما، عند أبواب الحرم القدسي، واستطاعت الدماء الفلسطينية المقدسة أن تصد عدوان الصهاينة ومخططاتهم لتقيد حضورهم لـ"المسجد الأقصى". ثم كانت الخطوة الثالثة التي فجرت "انتفاضة القدس" الواسعة الحالية، عندما لجأت الصهيونية لحيلة خسيسة كانت تستخدمها طوال فترة الاحتلال، وهي محاولة إضفاء الصفة القانونية على العنصرية والإرهاب والعدوان، فحاولت الصهيونية إصدار أمر قانوني قضائي رسمي بإخلاء حي "الشيخ جراح" المجاور للحرم القدسي في مدينة القدس، مع قيام مستوطنين صهاينة باعتصاب بيوت الفلسطينيين وطردهم تحت حماية جنود الاحتلال، هنا قام الفلسطينيون بالمقاومة في القدس، عبر الطقوس الروحية للصلاة والإفطار والسحور الجماعي، لكن العنف الصهيوني عبر الآلة العسكرية الغاشمة دفع الأمور نحو الحافة، لتتفجر غزة ومدن الداخل الفلسطيني المحتل.
حقيقة ما يحدث هو أبلغ رد على خطاب الاستلاب للصهيونية والترويج لروايتها الذي تزعمه يوسف زيدان ومراد وهبه، وغيرهما، ومحاولة قهر "مستودع الهوية" العربي والضغط عليه ليقبل بالخضوع والهيمنة للآخر الغربي والصهيوني، بحجة التقدمية والحداثة والتطور، وأن الذات العربية لا طائل من ورائها وتتسم بالرجعية المطلقة، ذلك رغم أن الذات العربية قدمت أروع نماذج الثورات "القيمية" والبطولية في التاريخ الحديث، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وهنا أذكر تيار الاستلاب بدراساتي التي نشرتها ردا عليه العام الماضي وهذا العام، وكذلك بدراستي التي نشرت في مجلة "الألكسو" بعنوان: ما بعد المسألة الأوربية.. كورونا كمفصلية ثقافية للذات العربية، والفرضية النظرية التي طرحتها، بأن الضغط على "مستودع الهوية" العربي في قضية فلسطين تحديدا، سيؤدي لرد فعل عكسي بالانفجار وليس بالخضوع.
الانتفاضة الشعبية العربية على مواقع التواصل الاجتماعي حاليا، هي أبلغ رد على دعاوي الاستلاب للآخر الصهيوني والغربي، وعلى الاتفاقيات الإبراهيمية ومحاولة سلب الذات العربية طموحها الوجودي، وأقول إن الوعي الشعبي يتدرج في الحضور، وقد ينتقل من الحضور الافتراضي إلى الحضور الواقعي ويكسر كل الخطوط، إذا شعر بالحاجة لذلك، فالوعي الشعبي ليس هو الشعبوية التي يسلط البعض عليه الأضواء، الوعي الشعبي متفوق وقادر على الفرز، لكن بعض النخبويين المنفصلين عن الواقع لا يميزون بين الحراك الشعبي و"الكتلة العربية الجامعة" التي تدافع عن "مستودع هويتها"، وبين التناقضات المصنوعة أو الهامش الانتهازي الذي يمكن تحييده تماما وفق "الفرز الطبيعي".
أما الموقف المصري تجاه انتفاضة القدس فهو موقف شديد الوعي بذاته حتى اللحظة الحالية، ويدرك المتغيرات الإستراتيجية في مرحلة ما بعد ترامب و"صفقة القرن"، وأهمية وجود وثيقة جديدة مستقلة لـ"الأمن القومي" المصري، تستعيد مكانة مصر وفق "مستودع هويتها" ومكوناته المتراكمة عبر الزمن، وتسعى لاستعادة "قواعد الاشتباك السياسي" لمصر في المنطقة عموما، سواء في القرن الأفريقي أو أفريقيا عموما، والطريقة الذي تتحرك من خلالها السياسة الأمريكية مع بايدن أو ترامب، والربط بين ملف "السد الإثيوبي" ومحاولة إخضاع مصر وكسر إرادتها. الخطاب المصري القوي الحالي في مواجهة العدوان الصهيوني على الفلسطينيين، لا يمكن تفسيره بشكل مستقل عما يحدث في ملف "السد الإثيوبي"، أو الوعي بالمرونة المطلوبة لتجاوز مخلفات صفقة القرن وتكتيك تفجير التناقضات الذي استخدمه ترامب عربيا، مصر تمارس تغييرا استراتيجيا كبيرا في سياساتها الخارجية، لكن ذلك سيكون في حاجة لجهد كبير ومتواصل في الفترة القادمة، للتأكيد على المكانة و"قواعد الاشتباك السياسي" الخاصة بها، وتحويل المرحلي إلى استراتيجي معتمد يلتحم مع الناس. لأن مصر حقيقة يمكن أن تكون إحدى عتبات الولوج لعالم "ما بعد المسألة الأوربية"، وكسر متلازمات التعالي الثقافي الغربي، خاصة إذا انتصرت في ملف "السد الإثيوبي"، وإذا استطاعت مصر تطوير إستراتيجية قصيرة وطويلة المدى لإدارة الدفاع عن الملف الفلسطيني، فستكون بالفعل قد وضعت دون ضجيج المسمار الأخير في "المسألة الأوربية" وهيمنة متلازاماتها الثقافية، لأن مشرووع الصهيونية ودولتها هو آخر الرواسب العنصرية الأوربية/ الغربية، وإشارة كبرى في طريق تفكك "المسألة الأوربية" وهيمنتها.
أعلنت مصر عن حلول سياسية للتهدئة بين قوات الاحتلال والفلسطينيين، وصعدت من خطابها حين رفض الصهاينة في رسالة قوية مباغتة لهم، وخرج خطاب وزير الخارجية المصري قويا في دعمه لأهل مدينة القدس والمرابطين دفاعا عن "المسجد الأقصى"، وأعلنت مصر عن استقبال الجرحي الفلسطينيين، وفتحت معبر رفح الحدودي بينها وبين فلسطين، وهناك العديد من التحركات القوية الأخرى.
أعتقد أن الفرصة التاريخية مواتية لمصر بشدة وللإدارة السياسية الحالية لتجاوز استقطابات ما بعد ثورة 25 يناير، والنظر للثورة المصرية كـ"إضافة لأمن القومي" المصري والعربي، بوصفها مكسبا لقواها الناعمة، كما أن اللحظة التاريخية الحالية يمكن ان تستعيد "القيم المشتركة" للشخصية المصرية، وتعيد صهرها وخلقها وتقديمها للعالم من جديد.
مامنا فرصة ذهبية لإعادة بناء الشخصية الجمعية المصرية في محكات مهمة مثل القضية الفلسطينية وملف "السد الإثيوبي، وأمامنا فرصة ذهبية لتغيير صورتنا النمطية أمام العالم أجمع بحضور خطاب ثقافي وسياسي جديد، يدافع عن "مستودع هويته" ويعرض قضيته على العالم بعدالة، أمامنا فرصة ذهبية إذا تصالحت "دولة ما بعد الاستقلال" بقلبها العسكري، مع مشروع "الثورات القيمية" وشعاراتها العادلة التي تتجاوز "مادية" شعارات "المسألة الأوربية" ليبرالية وماركسية، وتعبر عن حاجة العالم لنموذج إنساني وثقافي ومعرفي جديد.
مصر إذا وعت لذاتها وحولت تحديات اللحظة الحضارية الحالية لفرصة للنهضة وظهورها كـ"دولة صاعدة"، يمكن أن تكون واحدا من أبرز القوى الثقافية في عالم "ما بعد المسألة الأوربية"، وتستطيع إذا دعمت الدافع النفسي الجماعي للمفصلية الثقافية الثورية الكامنة عند الشعب المصري والشعب العربي، أن تمتلك "تراكما حضاريا" قويا يقدمها للعالم.
وكما كنت أقول دوما ستبقى فلسطين هي "ناقوس" الذات العربية، ومفصل أساسي في وعيها بـ"مستودع هويتها" وضرورة امتلاك مستلزمات الدفاع عنه، وستبقى مصر دائما وأبدا – وكلما وعت بذاتها وقدرها ومسئوليتها- قلبا للحاضنة العربية، تضخ فيه الروح ويضخ فيها الدماء والعزة والاعتداد.