السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

د. يسري عبدالله يكتب: التنوير والمناخات المواتية

يسري عبدالله
يسري عبدالله
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بينما كان المفكر الألماني إيمانويل كانط يعلن في القرن الثامن عشر مبدأ التنوير الأساسي" كن شجاعا، وحرا، واستخدم عقلك بنفسك"، كانت الوصاية الفكرية تهيمن على العقل العربي، وتحت عشرات المسميات الوهمية من قبيل الخلافة الإسلامية، التي جعلت من العثمانيين حكاما لعالمنا العربي يسومون أهله سوء العذاب تحت مظلة تتوسل بخطاب ديني للسيطرة على عقول العامة، ودفعهم للرضا الزائف، والقبول بحكم من ليس منهم، تحت وهم يباع لهم باسم الخلافة!.
لكن لماذا لا تواتينا الشجاعة في العالم العربي لاستخدام عقولنا حقا؟ ربما تكون الإجابة هنا عين المأزق الذي ينطلق منه السؤال، فالشجاعة المقصودة ليست جسارة الجهل ولا جرأة الجهلة، لكنها إرادة القوة، والوعي بسلطة المعرفة، والرهان المستمر على نسبية العالم والتصورات.
تبدو الثقافة العربية قابعة في الماضي، سؤالها ينحصر فيما كان، ولا تتطرق للمستقبل، ولذا يصبح الماضي رهانها المستمر، وملاذها الآمن، به تحتمي من جدل تكرهه، وفلسفة لا تؤمن بها حقا، فتبدو وفية لتراثها الغابر، ولمقولاته التي تُسفه من العقل، حيث من تمنطق تزندق، فيبدو سيف التكفير مشرعا دائما، ومسلطا على رقاب كل من يفكر، بينما كانت الثقافة الغربية ابنة سؤال متغير باستمرار، يتصل بجدل الزمان والمكان، حيث تتجدد الأفكار وتتغير بتغير الزمان والمكان، وتبدلهما الدائم، فترفض التداخل بين الديني والدنيوي، وتؤسس تصوراتها على قيم العقل النقدي والمساءلة الحرة، فلا تصورات مسبقة يتم تعميمها، ولا تنميطات جاهزة يتم فرضها، ولا اعتقادات بصلاحية الماضي لكل زمان ومكان، ولا أوهام حول أسبقية القرون الغابرة وفضلها الذي لا يدانيه فضل، واستلهامها نموذجا للمجتمع!.
ومن المفارقات المثيرة والعبثية في آن، أن هذا التصور بالأفضلية الدائمة لما كان، والاعتقاد بأن الماضي خير وأبقى، قد دفع بالمتطرفين والمختلين بالقول بأننا في الحياة الحديثة، نحيا في مجتمع الجاهلية، وتواترت عبارات لدى منظري الإرهاب في العالم حول جاهلية القرن العشرين، وحتمية العودة إلى الطريق المستقيم، وكان سيد قطب مُنظر التطرف والإرهاب نموذجا دالا في هذا السياق.
فالانطلاق من تصور محدد لنمط الحياة وأساليبها، ولطريقة التفكير، ومحو كل عناصر الاختلاف والتنوع سيفضي دائما إلى مثل هذه التصورات التكفيرية، ومن ثم تطلق مجموعة من المقولات الجاهزة التي تخاطب المشاعر العامة للجماهير، والتي يراد من ورائها الهيمنة على العقل العام وعلى مقدرات البشر والسلطة بالأساس، وحينما يتم تفكيك هذه المقولات الجاهزة ومساءلتها وتبيان تهافتها، ستجد جحافل من المتطرفين الذين يصنعون من أنفسهم وكلاء للسماء، ويقدمون أنفسهم باعتبارهم أوصياء على المقدس، ليطرحوا شيئا واحدا، جوهره خطاب التكفير، وامتلاك الحقيقة المطلقة، حيث لا حقيقة سوى ما يطرحه المتطرفون وما يتوهمونه وما يلقيه إليه شيوخهم، وما درجوا عليه من تصورات جامدة.
والحقيقة أن التطرف حلقات مركبة، تبدأ من آراء فقهية تتخذ سلطة القداسة على يد جماعة من البشر، أو تنطلق من احتكار للتفسير، ولجوء إلى التأويل الجاهز، وتوظيف كل شيء لمصلحة صاحب الخطاب، الذي لن يعجزه أن يقول أي شيء في ظل تراث مفخخ بالأساطير والأوهام، وفي ظل تصورات فقهية تستند في بعضها على أفكار معادية للحداثة والتقدم، وهنا تكمن المشكلة الحقيقية.
إن استئناف التنوير ينبغي أن يعتمد على الاحتفاء بمعنى العقل، وجوهره، والانطلاق من النسبي والمحتمل، والاعتقاد بأن الحياة سلسلة من التراكمات المتغيرة التي تقتضي وعيا نسبيا بالأساس، فعلى المستوى العام يجب أن يكون هناك مناخ داعم لقيم التنوير وأفكاره، حيث تسييد النزعة العقلانية، والدفاع الخالص عن العقل، والاستجابة لقيم التقدم، والتخلص من النزعات الماضوية، ومغادرة ثقافة التنميط الجاهز إلى براح التنوع الخلاق.
يجب أن يتم تجديد أدوات التنوير، بدءا من تجديد الخطاب ذاته، وصولا إلى آلياته، بحيث تنهض المؤسسة الثقافية بمسئولياتها الفكرية والإبداعية، وتقوم المؤسسة التعليمية بتنمية العقل النقدي والخيال الإبداعي ضمن مناهجها، ويؤدي الإعلام دورا حقيقيا في الدفاع عن قيم التنوير والتقدم وتبنيهما.
أما على المستوى الفردي فيجب أن يمتلك الإنسان إرادته الحرة، ليخرج من مرحلة القصور العقلي، إلى مرحلة التفكير، فيرى الأشياء من زاويته الخاصة وليس من زاوية مقررة عليه سلفا، فيراها عبر عقله الحر، وليس عبر عيون الآخرين من موظفي الأيديولوجيا وشيوخ الوصاية الدينية.
وبعد.. ثمة لحظة فارقة الآن على المستوى العام، لحظة ربما تحمل طرفا من تلك السياقات المواتية، فمصر عاشت ثورتين في غضون سنوات قليلة، وكانت ثورة الثلاثين من يونيو رفضا للاستبداد باسم المقدس، واستعادة للهوية الوطنية التي حاول الإخوان محوها، وحينما خرجت الجماهير المصرية كانت تدرك أنها تثور على نظام سلطة الفقيه، ونفي الأوطان، من هنا كانت ثمة شجاعة واستخدام للعقل من الجماهير التي أدركت أن أمة عظيمة مثل مصر لا يجب أبدا أن تحكمها جماعات إرهابية أومتطرفة.