الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

القس جاد الله نجيب يكتب: الاعتذار الثقافة الغائبة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
من أكثر الثقافات احتياجًا وضرورة للأسرة والمجتمع في الماضي والحاضر والغد، هي ثقافة الاعتذار.
في الواقع أن الاعتذار وطلب المغفرة ليس بالعمل السهل على كل المستويات. إلا أنه سلوك حضاري يعكس مستوى النضج والثقة عند الشخص، كما تعكس مضمون شخصيته الإنسانية، ومدى اتساع مداركه الفكرية وقدرته على التعامل مع مختلف الظروف ومواقف الحياة المتعددة، لذلك نجد أن بعض المجتمعات تعتبر الاعتذار جزء أصيل من مقوماتها وثقافتها الفكرية.
إن غياب ثقافة الاعتذار في المجتمعات الشرقية ناتج طبيعي عن غياب ثقافة الحوار، وثقافة الاعتراف بوجود الآخر وكينونته، وتقدير لهذه الكينونتة. فثقافة الإقصاء والتهميش هي الثقافة الغالبة في المجتمعات التي تنكر أهمية الاعتذار.
وعلى الرغم من أن السمة البارزة عند المجتمعات الشرقية هي العلاقات الاجتماعية والترابط العائلي، إلا أنها تفتقد مهارة وفن الاعتذار، للحفاظ على هذا الترابط، وبناء جذور الود والألفة. والسبب في افتقاد هذا الفن الإنساني يرجع إلى الكبرياء، واعتبار أن الاعتذار دليل ضعف الشخصيه، أو فشلها، وأن عزة النفس والكرامة عند الشرقيين تحول دون الوصول إلى اكتشاف فن الاعتذار والتدرب على اكتساب هذه المهارة.
من الحياة العملية، نجد في المجتمعات الشرقية صعوبة كبيرة في اعتذار أب لأبنائه، أو زوج لزوجته، أو أخ لأخيه، أو جار لجاره، أو مدرس لطلابه، بسبب خطأ صدر منه أو تقصير عن دور أو مسؤلية أو واجب ما لم يقم به. أما في المجتمعات الغربية نجد الاعتذار يصدر من مسؤول في رسالة موجهة للمجتمع عن قرار خاطئ اتخذه، فتسبب في مشكلة أو أزمة تمس الصالح العام. أو تنحي مسؤول عن موقعه الحساس نتيجة لخطأ فعله. نجد المعلم أو الأستاذ الجامعي يعتذر لتلاميذه عن خطأ غير مقصود سواء في المعلومة أو السلوك تجاههم، لكي يرتقى بعلاقته معهم فيبني جسر الثقة والمصداقية واستمرار التواصل. الاعتذار لا يهز مكانة المسؤول أو المعلم أو الأستاذ الجامعي، بل يعمق جذور الحب والاحترام والتواصل، بل وزد على ذلك أن الاعتذار يعكس قوة داخلية ومتانة خُلق وتحمل المسؤولية. ألا يحتاج كل فرد في الأسرة وكل عضو في المجتمع إلى هذه السمة الأكثر احتياجًا أن تتسم بها شخصيته؟
وعلى مستوى الدول على سبيل المثال لا الحصر، يسجل التاريخ أن اليابان اعتذرت للدول التي احتلتها في جنوب شرق آسيا، واعتذرت عن ممارساتها لأسرى الحرب البريطانيين، كما أن فرنسا اعتذرت عن شحن يهودها إلي المحارق، بالإضافة إلى ما قام به المثقفون الفرنسيون من إدانة وتجريم لدولتهم على ماضيها المخزي في الجزائر، وبالتالي واعتذروا لهم، كما فعلت نفس الشئ سويسرا. اعتذر بيل كلينتون عن تاريخ أمريكا المخجل فيما يتعلق بالعبيد والهنود الحمر. واعتذر توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، عن دور بريطانيا في تجارة العبيد. واعتذر ويليام دي كليرك رئيس جنوب أفريقيا الأسبق، اعتذاره عن سياسة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا.
أما من جهة الكنيسة، فقد اعتذر أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في إستراليا للسكان الأصليين عن المعاملة اللا إنسانية التي طالما عانوا منها. واعتذر البابا يوحنا بولس الثاني عن الأخطاء التي ارتكبها الكاثوليك في حق الأرثوذكس خلال الألف عام التي مضت على الانشقاق التاريخي بين الكنيستين.
الحقيقة الواضحة هي أن الاعتذار دليل الشجاعة على مراجعة النفس وتصحيح الخطأ من خلال المحبة والثقة بالنفس. الاعتذار ليس لغة الضعفاء، بل هو لغة الشخصية القوية والإنسان الراقي الذي يحترم نفسه، كما أنه سلوك أخلاقي نبيل تتسم به حياة الأسوياء، يعكس بوضوح رزانة عقل، وأمانة ضمير، ونزاهة شخصية في تعاملاتها مع الآخر مهما كان وأينما كان. فثقافة الاعتذار مرتبطة بالنبل، والمروءة، واحترام الذات، واحترام الآخر وكينونته وخصوصيته.
الأمر اللآفت للنظر هو أن الشخص الذي لا يقدر أن يقدم اعتذارًا عن أخطائه، يتعذر عليه أن يقبل اعتذارات من يخطئون إليه. فالسمة التي يتسم بها أولئك الذين لا يعترفون بالخطأ ولا يقبلون اعتذار الآخرين، هي روح الانتقام والتشفي، إنه الجانب المظلم الذي يسكن في تلك النفوس الضعيفة. وبالتالي فإن الحياة التي تخلو من الاعتذار تحمل روح التعالي والندية، وتزرع عدم الثقة في النفوس، بل وتخلق جوًا من التوتر والقلق.
إن تقديم كلمة اعتذار "آسف" ، هذه الكلمة سحرية، فهي تهدئ ثورة غضب في النفس، وتشفي وجعًا أصاب القلب، وتجبر كسرًا لخاطر، وترمم علاقة مزقها الكلام الجارح، وتبني جسوًرا بين العلاقات المنهدمة. كم من خلافات ومشكلات حدثت بين الناس، وكانت كلمة مثل آسف، أو أخطأت التقدير، أو لم أقصد، تكفي لوقف نزيف الخلافات والمشكلات.
الإعتذار وسيلة خلاّقة وفاعلة وهامة للتواصل الإجتماعي مع الآخر، بل ووثيقة إعتراف بوجود الآخر واحترامه، ومهارة من مهارات الحوار مع الآخر، فالإعتذار يجعل الحوار متواصلاً ومرناً وسهلاً.
الإعتذار مصدر لزيادة الثقة بين المتحاورين، بين الرجل وزوجته، الأب وأبنائه، المعلم وتلاميذه، الرئيس ومرؤوسيه. الإعتذار بمثابة زيت يزيل الأثار السلبية للإحتكاك المتبادل بين الناس، فهل لنا رغبة في تطوير الذات وتعزيز حياة تستحق العيش هنا والآن؟!