الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الشائعات والأمن القومي المصري

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تعد الحرب النفسية أو ما يطلق عليه الآن حروب الجيل الرابع والجيل الخامس أهم الحروب المعاصرة التي يتم توظيفها لإضعاف الدول، بل وهدمها دون اللجوء للحروب العسكرية التقليدية التي تحدث فيها مواجهات مباشرة بين الجيوش، وتستخدم الحرب النفسية أساليب عديدة لتحقيق مرادها أهمها الشائعات، والدعاية السوداء، وإثارة الرعب والفوضى، وافتعال الأزمات، وغسيل الدماغ والتحولات العقائدية وغير ذلك.. وقد صادف وطننا المصري حربا نفسية شعواء منذ ثورة الثلاثين من يونيو التي أعادت للوطن كبرياءه وكرامته، حاولت وما زالت تحاول النيل منه بشتى الطرق الممكنة التي شملت التشكيك في القيادة السياسية وفي قدرتها على إدارة الدولة والحفاظ على استقرارها، والعمل على إحداث الفُرقة والوقيعة بين الشعب وقواته المسلحة التي هي نفسها الشعب وليست جزءا منه، هي روح هذا الوطن وعموده الفقري، وكذلك بث اليأس والقنوط والشعور بالفشل لدى المواطنين، وإقناعهم بعدم وجود أمل، والتهوين مما تحقق من إنجازات على أرض الواقع، وتضخيم الأخطاء التي تحدث، بقصد إحداث حالة من فقدان الثقة لدى المواطنين، مما يؤدي إلى تفسخ العلاقات التنظيمية وضعف الضبط الاجتماعي، والتقليل من قدرة الدولة على تلبية مطالب الشعب، وتحقيق طموحاته، وإثارة الفتن والقلاقل بين أبناء الشعب، وربما أهما إثارة الفتنة الطائفية، بل وصل الحال الآن إلى إثارة الفتنة الرياضية بين جمهور الناديين الكبيرين الأهلى والزمالك.
وتعد الشائعات أهم أساليب الحرب النفسية على الإطلاق وأخطرها على الأمن القومي المصري، وتعرف بأنها: رواية يتناقلها الأفراد دون أن يكون هناك مصدر موثوق يؤكد صحتها، أو هي قصة غير متحقق من صدقها تنتشر في المجتمع، ويزعم فيها حدوث واقعة معينة، أو قضية نوعية قابلة للتصديق. وكانت هذه التعريفات تركز في السابق بشكل أساسي على أن الشائعات تتناقل عادة بين الأفراد بالكلمة المنطوقة، ولكن مع التقدم التكنولوجي الرهيب الذي نعايشه مع بداية القرن الحالي ونهاية القرن الماضي دخلت وسائل الإعلام بمختلف صورها لتسهم في الحرب النفسية بكل أساليبها وأهمها الشائعات، وأصبحت مصدر اضطراب وقلق للمجتمع، مثلما هو الحال في سائر المجتمعات، وأصبحت حربا نفسية إلكترونية، تنتشر الشائعات في ضوئها انتشار اللهب في الهشيم، وبذلك فهي تختلف عن الخبر الذي يجب أن يكون مشمولا بتاريخه، ومنسوب لوسيلة إعلامية موثوق بها مثل إحدى الجرائد الرسمية، أو تصريح في وسائل الإعلام لأحد المسئولين الذي يبين دليل صدق الخبر.
والموضوع المهم الذي يشغل العالم كله، وتفشت حوله شائعات عديدة، هو فيروس "كورونا المستجد"، والمخاطر التي تواجه العالم من احتمالات انتشاره ليصبح وباء يصعب السيطرة عليه، ووطننا ليس ببعيد عن هذه المخاطر التي تتطلب تكاتف كل الجهود الحكومية والشعبية لحسن المواجهة. وقد انتشرت حول فيروس "كورونا" العديد من الشائعات خلال الفترة الماضية، هدفت إلى إحداث حالة من البلبلة والقلق والرعب لدى الناس، والتشكيك في قدرة مؤسسات الدولة على مواجهة هذا الوباء على المستويين الوقائي والعلاجي.
فقد انتشرت شائعات عديدة خلال الفترة الماضية على مواقع التواصل الاجتماعي وبين الناس تحدثت عن وجود أعداد كبيرة من الحالات المصابة الموجودة في مصر، وكذلك وجود حالات وفيات كل يوم لا تعلن عنها الدولة وتخفي كل المعلومات الخاصة بها، ويكتب في المنشورات أن هذا الخبر صرحت به وزارة الصحة، أو مصدر مسئول، أو عرفت من ممرضة في المستشفى، أو طبيب أخبرني بذلك، والإشارة إلى تلك الشائعات في مختلف محافظات الجمهورية لزيادة حالة البلبلة والخوف لدى المواطنين، وفي كل هذه الحالات لا توجد أدلة على صحة ما يقال، وكانت آخر الشائعات التي انتشرت انتشارا كبيرا على مواقع التواصل الاجتماعي هي وفاة مدرس مساعد في كلية الزراعة جامعة القاهرة بالفيروس، وهذا غير حقيقي بالمرة.
وبالإضافة لأخبار انتشار الفيروس والوفيات الناتجة عنه، تتم مشاركة منشورات من أشخاص مختلفين على صفحاتهم، تبدو متطابقة بالكلمة عن مرض أحد الأشخاص، وذهابه للطبيب، وإخباره بأن مصاب بالفيروس، ولا بد له من عمل تحليلات للتأكد من التشخيص، والأسوأ أن يشير آخرون أن البعض أجرى تحليلات في معامل خاصة وثبت وجود الفيروس لديهم، مع العلم بأن هذه التحليلات لا تتم إلا في معامل وزارة الصحة. ويتسع نطاق هذه الشائعات ليشمل أن بعض الدول أوقفت إصدار تأشيرات دخولها للمواطنين المصريين، وأن طيران بعض الدول الأخرى أوقف نشاطه للقاهرة، وأن الدراسة سوف تتعطل في القريب، أو أن بعض أولياء الأمور منعوا أبناءهم من الذهاب للمدرسة لوجود حالات إصابة في مدارسهم، وغير ذلك من الأكاذيب التي لا يقبلها العقل، ولا تتفق مع المنطق، ولكنها للأسف يصدقها الكثيرون، ويتفاعلون معها، ويشاركون في نشرها، وجميعها يهدف بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى ضرب الاقتصاد الوطني الذي بدأ يتعافى بصورة شهد لها كل العالم، وبدأ الجنيه المصري في استعادة قيمته أمام الدولار، وبدأت السياحة تعود لسابق عهدها في مختلف المزارات السياحية التي كانت تعاني من انخفاض زائريها خلال السنوات الماضية.
وهنا يبرز تساؤل مهم له دلالات هو من يقوم ببث هذه الشائعات بهذه الصورة على شبكات التواصل الاجتماعي؟ تشير الإجابة إلى وجود فئتين أساسيتين من الأشخاص، تتباين أهدافهما: تقوم الفئة الأولى ببث الشائعات عموما، وشائعات فيروس "كورونا" على وجه الخصوص، عن قصد وبنية خبيثة، ضمن الحرب النفسية التي يتعرض لها الوطن، وتقوم بهذه المهمة لجان إلكترونية منظمة لدرجة مشاركة المنشورات نفسها بشكل متطابق يمكن ملاحظته بسهولة، وهذا دأب أنصار الجماعة الإرهابية في كل مراميها، يستخدمون نفس العبارات ونفس الألفاظ بصورة ساذجة. والفئة الثانية يفتقد غالبية أفرادها للقدرة على التفكير العقلاني والتمحيص النقدي، ويقومون بعمل مشاركة لمنشورات لا يقبلها العقل، وهؤلاء الأفراد لا نتشكك في نواياهم، ولكن تتمثل خطورة ما يقومون به في أنهم يدعمون أصحاب الفئة الأولى، ويتجاوبون معهم ويساهمون في تحقيق أهدافهم دون وعي منهم بما يقومون به، رغم ثقتي في وطنية هؤلاء الأشخاص، لكن للأسف هذا ما يحدث، ويسهم في تزايد انتشار الشائعات.والسبب في ذلك هو القابلية المرتفعة للتصديق لدى هؤلاء الأشخاص.
والواقع أن وزارة الصحة والطب الوقائي يقومون بدورهم على أكمل وجه في التعامل مع هذا الوباء، وهناك استعدادات أعلنت عنها وزارة الصحة، ووضعت الدولة سيناريوهات للمواجهة حتى في أسوأ الظروف.. فقد تم الإعلان عن حالتين أثبتت التحاليل التي أجريت لهما وجود الفيروس، إحداهما شفيت، والأخرى أكتشفت حديثا وجارٍ علاجها، وكل حالات الاشتباه التي تم حصرها أثبتت التحاليل أنها سلبية وخالية من الفيروس. وتقوم الوزيرة ومساعدوها بعمل مداخلات إعلامية متواصلة لعرض الحقائق بشفافية تامة، وذلك أحد سبل المواجة الجادة للشائعات، ومع ذلك يتشكك الكثيرون فيما تقدمه وزارة الصحة، ويصرون على إثارة البلبلة والخوف والقلق بين المواطنين، بشكل يبدو كما لو كان هؤلاء الأشخاص يتمنون تفشي الوباء في مصر.
فليس من مصلحة الدولة ولا وزارة الصحة التعتيم الإعلامي وعدم الإعلان عن نسب الانتشار والحالات التي ثبت إيجابيتها بالتحليل، ولا أدري لمصلحة من ما يحدث على مواقع التواصل الاجتماعي من تهكم على المسئولين واستهزاء بهم بصورة غير مبررة، والإساءة لمؤسسات الدولة من خلال النكات التي تتعلق بالفيروس والصور والأشكال الهزلية التي تنشر، وهنا تجدر الإشارة إلى أن ذلك مقصود من قبل الخبثاء الذين ينتجونها، ويشاركها الجميع.. فهناك علاقة وثيقة بين الفكاهة والشائعات المدمرة، فعندما تنشر الشائعات في إطار فكاهي هزلي، تجد طريقا سهلا للانتشار، وتجاوبا كبيرا من الناس، ومستوى عاليا من التصديق، وهذا ما حدث في كم النكات والسخرية التي طالت السيدة الدكتورة وزيرة الصحة في كل تصريحاتها ومداخلاتها المتعلقة بالفيروس.
والشيء الغريب أن الناس لا تتقبل حتى سماع الكلام العاقل الذي يدعوها للتفكير فيما تسمع أو تقرأ، فأي منشور إرشادي من هذا القبيل على فيس بوك لا يجد تجاوبا من أكثر من عشرة أشخاص، ربما يجاملون صديقهم صاحب المنشور، هذا في مقابل المنشورات الأخرى التي تسعى لنشر أكاذيب عن حالات وهمية تم اكتشافها، أو حالات وفاة لا تعلن عنها وزارة الصحة، فنجد عدد المشاركين فيها بالمئات، والكل يدعي صدق ما ينشر، رغم أنه لم يشاهد بعينه حالة مريض أو متوفي من جراء المرض، ولكن لسان حال الجميع هو سمعت من فلان، أو أكد شخص مسئول،عرفت من جارى، أو صرحت وزارة الصحة.. إلخ، وفي كل هذه الحالات لا يوجد مصدر موثوق به لهذا الإدلاء.
نحن لا نريد أن تتفشى في مجتمعنا حالة من الهلع والذعر لدى المواطنين، ولا سيما إذا ما تزايد عدد الحالات التي يتم اكتشافها خلال الفترة الماضية.ففي حالات الأزمة يكون الهدوء مطلوبا، ويتعين علينا أن نضبط انفعالاتنا، ونحكم العقل فيما ننشره أو نتحدث فيه، فنحن جميعا في مركب واحد، وإن شاء الله نتجاوز هذه الأزمة مثلما تجاوزنا أزمة فيروس "سارس" وفيروس "أنفلونزا الخنازير" في السابق، ويجب أن يثق الجميع أن وزارة الصحة هي المصدر الوحيد الذي يقدم لنا المعلومات الحقيقية والأخبار الصحيحة بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية.
المهم هو أن الشائعات، وكل أساليب الحرب النفسية التي يشنها أعداء الوطن في الداخل والخارج مسألة أمن قومي، وتحتاج لتضافر كل الجهود لمواجهتها وحسن التعامل معها بالصورة العلمية والعملية التي تجنب وطننا شرورها، فخلال السنوات الماضية انتشرت العديد من الشائعات التي تشمل كل المجالات السياسية والاقتصادية والرياضية، وجميعها كان يهدف للنيل من الوطن، ومحاولة زعزعة استقراره وأمنه، وكل ذلك يتطلب المواجهة الجادة والأمينة، صحيح تحاول مؤسسات الدولة وعلى رأسها مركز دعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء وغيره تكذيب الشائعات التي يتم تداولها، وهي بالعشرات يوميا، ومتنوعة الهدف والمضمون، لكنني ما زلت أرى أن التكذيب عن طريق وسائل الإعلام كأحد سبل مواجهة الشائعات ليس كل شيء، في ظل فقدان الثقة لدى قطاع لا يستهان به من الشعب في مؤسسات الدولة، وتجد قبولا لدى الأشخاص الذين ترتفع لديهم القابلية للتصديق ويفتقدون القدرة على التمحيص العقلاني والتفكير النقدي.
ولكن لكي يكتب النجاح للتكذيب في إيقاف مسار الشائعة والتخلص منها، يفضل أن يكون على لسان أحد المسئولين الكبار أو الشخصيات المرموقة موضع الثقة لدى الجمهور، ولها مكانتها العلمية أو السياسية أو الاجتماعية أو العسكرية حسب موضوع الشائعة، وكذلك عدم تكرار الشائعة نفسها عند تكذيبها باستخدام الألفاظ التي استخدمت فيها، واستخدام ألفاظ مقتضبة تدل عليها، وبالإضافة للتكذيب يمكن استخدام ما يطلق عليه عيادة الشائعات، والتي يتم فيها تخصيص مساحة معقولة في صحيفة يومية أو برنامج إذاعي أو تليفزيوني أو صفحات رسمية على مواقع التواصل الاجتماعي يتم فيها تحليل الشائعات تحليلا نقديا ومتكاملا: نفسيا واجتماعيا لتفنيدها بحجج قوية وبدلائل يقبلها العقل.
والأهم هنا هو الإشارة إلى أن مواجهة الشائعات وكل أساليب الحرب النفسية أو حروب الجيل الرابع والخامس مواجهة جادة تقتضي تكاتف كل مؤسسات الدولة لتبني استراتيجية متكاملة، وواضحة الأهداف تساهم في تطبيقها كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية، بما في ذلك الأسرة والمدرسة والجامعة ووسائل الإعلام التي تبدو هي الأهم في الوقت الحالي، مع بذل كافة الجهود لتعزيز الثقة في وسائل إعلامنا حتى لا يلجأ المواطنون للإعلام الخارجي الذي يمثل هو نفسه قنوات هدم كما هو الحال في القنوات التي تبثها الجماعات المارقة والإرهابية من أعداء الوطن، واللجان الإلكترونية لتلك الجماعات على مواقع التواصل الاجتماعي، هذا إضافة لدور المسجد والكنيسة في التوعية العاقلة والمستنيرة بتلك المخاطر، ولن يتم تحقيق هذه الأهداف إلا من خلال تطوير طرق التفكير لدى أبنائنا، وتنمية التفكير الإبداعي والنقدي ليحل محل التفكير النمطي والجامد والتقليدي، فهذا هو السلاح الواقي الذي يمكن شبابنا من تفنيد كل الشائعات وتحليلها بالحجة والمنطق، ومواجهتها وعدم التجاوب معها حتى لا يحدث ما نعاني منه الآن من بلبلة وإثارة وتشكيك وبث الخوف والرعب في نفوس الناس.