الأربعاء 01 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

لاتقربوا القهوة!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
احتفال جماعة قرب «مكة» بالمولد النبوى يُشعل سجالا وتجاذبات حادة بين فقهاء وقضاة، وعلماء، وأطباء، وشعراء، هذا ليس عنوانا إخباريا أو مفتتح تقرير صحفي، ولا السجال حول الاحتفال بالمناسبة، بل هو عنوان لما رُوى عن واقعة سُجلت بمحضر سُمى «واقعة مكة» 1915م، سيخرج من الحجاز ويصل القاهرة للمشورة والفتوى، وفحواه أن ناظر الحسبة بمكة «خاير بك»،والمعين من السلطان «قانصوه الغوري»، مر بجماعة تحتفل بالمولد النبوي، يتناولون شرابا تعجب له ولأمور اختلطت بجمعته، فسأل عنه، فقيل له، هو شراب اتخذ في هذا الزمان، وسمى القهوة، يطبخ من قشر حب يأتى من بلاد اليمن ويقال له «بُن» ويباع في أماكن تتخذ هيئة الخمارات، وعلى عجل سيجمع الوصى على أخلاق المجتمع وقتذاك «خاير بك» نخبة من فقهاء وعلماء الحرم المكى لمناقشة أمر القهوة ومايصاحب شربها من مظاهر، أبدت النخبة المجتمعة موقفا حامى الوطيس متعارضا فيما بينها، فإذا كانت نخبة رأت التحريم مرتبطا بتلك المظاهر المرفوضة لجلسات القهوة، فإن الفئة المُحللة لكون الحب المسمى قهوة حكمه حكم النباتات، والأصل فيها الإباحة. ماكان للخلاف البين أن يجعل لخايربك قرارا حاسما في مسألة تعاطى القهوة، فذهب مستشيرا الأطباء ومعولا على طبيبين شهيرين يحققان في مضرة أو نفع القهوة للبدن والذهن، فجاء الجواب «المشروب المتخذ من قشر البن، بارد، يابس، مفسد، للبدن المعتدل»، صار أمامه رأيان بمقابل رأي، على ذلك حزم أمره وأعطى أوامره لينادى المنادى في مكة وشعابها بمنع تعاطى القهوة. لكن الشعراء سيشعلون المعارضات الشعرية بينهم مؤيدين لها وممانعين، ويعلى عيار المسألة مفتى مكة بإحالتها إلى رجالات الفقه والقضاء بمصر، وبدمشق وفى ذات المناسبة وساعة حفل لمولد النبوى سيوثق لنا المؤرخ الدمشقى ابن طولون أول حادثة عرف وسمع فيها عن القهوة بالمدينة، وهى زيارة قاضٍ لمكة نزل ضيفا عند الشيخ الكيزوانى وشرب مع الجماعة المحتفية، القهوة المتخذة من البن، كما سينقل نقلا مشابها عن ابن أبى كثير العالم المكى الذى كان من أنصار شرب القهوة وجلس في حوانيتها بدمشق. وابن طولون سيحفظ موشحا عنها مطلعه: قهوة البن مرهم الحزن وشفا الأنفس *** فهى تكسو شقائق الحسن من لها يحتسي، وفى دمشق في عهد السلطان مراد الرابع (1623-1640)، ستقوم «ثورة القهوة»، في مواجهة قانونه الذى يحرمها بل ويعدم شاربها!. 
القهوة التى ظهرت في اليمن في القرن الخامس عشر (العاشر الهجري) وانتشرت في الحجاز ومصر وبلاد الشام، ستقوم بدور حافز ومثير في تحفيز الإنتاج الفقهى والأدبى في أى وسط تحل فيه بين مدحها وذمها، فلم يكن أمر تعاطيها ولا إقامة مقاهيها سهلا ميسرا، تفاصيل كل ما سبق ذكره، يحفظه لمُريدى القهوة، الكاتب محمد الأرنائوط في كتابه «من التاريخ الثقافى للقهوة والمقاهي» (جداول - بيروت 2012)، والذى يُهديه إلى روح جده «زين الله غيغا» الذى كان يحرص في كل حجة على حمل القهوة العربية إلى أسرته في كوسوفا. 
وعن ما شهده الموقف من القهوة في مصر من انقسام فقهى وكذا شعرى يخصص مؤلف كتابها الأرنائوط فصلا موسعا، ويعرفنا بشيخ الأزهر أحمد السنباطى المشهور بأقطار الأرض كالشام والحجاز واليمن والروم من قاد حملة ضد القهوة وبيوتها، مشيعا أنها حرام ومسكرة، فقام مؤيدوه بشن حملة على محلات شربها تكسيرا وضربا لشاربيها، لتقوم «فتنة القهوة» عام 1543م، حينها تدخل قاضى القضاة إلياس الحنفي، وأمر بطبخ حبوب البن وأحضر في مجلسه جماعة وجعلها تشرب كوبا منها منتظرا النتيجة والأثر على عقولهم وفصاحتهم، فلم ير فيهم تغيرا أو خللا، فأمر بفتح حوانيتها، وحسم الأمر لصالح شراب القهوة. عندها سيرفع شاعر القاهرة إبراهيم بن المبلط عقيرته قائلا: 
أرى القهوة في عصرنا على شربها الناس قد أجمعوا
وسيصيغ رسالته في مجموع من الأوراق أسماها «عمدة الصفوة في حل القهوة» شاهد العيان عبد القادر الجزيرى أصيل القاهرة، موثقا موشحات وأشعارا في مدحها ووصفها وفوائدها، ومن أقواله: 
ليس في القهوة من إسكار كلا ولا نوعا من الأضرار.
ويبذل الأرنائوط جهده بحثا في كتابه الباذج الماتع أحاطه بعوالم القهوة، عابرة الجغرافيا، ووسيلته كتاب الجبرتي، كاشفا عن المخطوط النادر والنسخة الأصل للشيخ الأديب عبدالله الأدكاوى المصرى المولود في قرية إدكو قرب رشيد، والمحفوظ بخط نسخ مقروء بمكتبة (يال) الأمريكية، ونسخة منه وحيدة في مكتبة الجامعة الأردنية، والمعنون: حسن الدعوة للإجابة إلى القهوة، المخطوط يقدم مادة تاريخية، وسياحة شعرية تطرح نصوص جماعة لا تقربوا القهوة، وجماعة أُحلت لكم فاشربوها!.