الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مجددون في عباءة المحافظين.. المنفلوطي مجددًا «1»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
اجتمع أهل الرأى - علماء ومحدثون - على أن الحقائق تطلب من مصادرها، والأدلة لا تكون سندًا إلا بقوة البرهان المؤيد لها، والحكم على الرجال وتصنيف اتجاهاتهم ونقد آرائهم لا نستدل عليه بالإجماع أو بشهرة الناقد أو مكانته، بل بقراءة ما سطرته أقلامهم وما صرحوا به من أقوال وما تحقق من آثارهم، ومن هذا السبيل نؤكد أنه ليس كل ما رويِ عن «مصطفى لطفى المنفلوطي» (١٨٧٦-١٩٢٤م). يخلو من الذاتية فى النقد والمذهبية فى الرأى والهوى فى الحكم.
فقد ذهبت العديد من الدراسات إلى اعتبار المنفلوطى أحد أئمة الاتجاه المحافظ، وبالغ بعض الكتاب فى وصفه بأنه الرجعيِ فى الآراء والمتقعر فى اللغة والمقلد فى الأدب، غير أن الواقع يشهد بغير ذلك، وسوف نقدم فى السطور التالية البراهين التى تؤكد أصالة وطرافة آرائه وتبيان أن كل ما أثير من حوله من اتهامات كان وليد المثقفات والمناظرات الأدبية والفكرية التى خاضها.
فالمنفلوطى كان حداثيًا غير مفارق لمجتمعه، فطالما تحدث عن مشكلات الشباب وعواطفهم الملتهبة وأثر الطبيعة الاجتماعية على العلاقات بين الجنسين وألاعيب الشباب الماكر والمخادع الذى يستحل كل أشكال المجون، ويرتكب الموبقات والفحش فى القول والعمل باسم الحب تارة والدفاع عما يعتقد فى صحته تارة أخري. وانتشله من برَك الرذائل وارتقى بذوقه وأريحَيته حتى أجلسه على عرش الفضائل، وذلك فى العديد من قصصه مثل «غرفة الأحزان» و«التوبة» و«الجزاء». ذلك فضلا عن أقاصيصه وترجماته الروائية التى دافع فيه عن الأخلاق المثالية، وقد أراد من ذلك غرسها فى أرواح الشباب وسلوكهم.
أما عن أسلوبه فكان أقرب إلى اللغة الأدبية القشيبة التى تحفل بالبيان والجرّس فى استخدام البديع دون تكلف أو صنّعة، الأمر الذى كان وراء إقبال الأدباء الشبان على كتاباته النثرية وتفضيلها عن غيرها، فمقالاته لم تكن محاكية للموروث العربى القديم، بل كانت مجددة فى تراكيب العبارات وترتيب الأفكار وتنوع الموضوعات.
وقد حاكيَ أسلوبه معظم أصحاب الأقلام فى الربع الأول من القرن العشرين، محافظين ومجددين مثل «مصطفى صادق الرافعي»، «طه حسين»، «عبدالعزيز البشري». 
أضف إلى ذلك وجهته الإصلاحية التى ترمى إلى التوجيه وليس التلقيم أو الحفظ أو إعلان الوصاية أو الحجّر على آراء المخالفين فقد دأب على مخاطبة العقل والإرادات الحرة التى تميَز بين الإلزام والالتزام. وما ينبع من المجتمع ومشخصاته وما يؤمن به الفرد ويعبًر عن هويته.
وحسبنا ألا ننسى دفاعه عن العدالة الاجتماعية وانصاف ذوى الكفاءات من العصاميين والتهكَم على من افتتنوا بمظاهر الحياة المدنية الأوروبية، فراحوا يقلدون قشورها دون لبابَها.
وظنوا أن المدنية والتقدم فى تقليد الأغيار. واعتقدوا أن جحد مشخصاتهم التليدة هو سبيلهم إلى العلم والرقي. وقد حذر فى العديد من أعماله القصصية؛ الطبقة الارستقراطية المصرية التى شجعت أبناءها من الجنسين على تقليد الأجانب فى لغتهم ولباسَهم وعوائدهم، حتى أضحوا مسوخًا لا انتماء ولا ولاء فى أفكارهم للوطن الذى نشأوا فيه.
ولعل كتابته النقدية الإصلاحية تبدو بوضوح فيما حَوته مقالاته فى «كتاب العبرَات»، «كتاب النظرَات».
تلك التى تناول فيها عشرات القضايا مثل (السفور والحجاب، التجديد والتبديد، الحرية والفوضوية، الشجاعة والتهور، المّدنية والتفرّنج، العلماء والأدعياء، النقاد والنقاض، المصلحين والمضللين، رجالات الصحافة وتجار الكلمة). وغير ذلك من قضايا اللغة والأدب والفكر والسياسة. وليس أدَل على صدق خطاب الرجل من اجتماع شيوخ عصره على تباينّ وجهاتهم على أنه المعلم الأريب والمفكر الحصيف والمجدد الصادق الذى حمل خطاب «محمد عبده» الإصلاحي، فجدده وطوّره لاسيّما فى مجال الأخلاق.
فقد اتفق «العقاد» و«سلامة موسي» على أنه أديباً مبدعًا جمع بين الأصالة والمعاصرة، وإن كتابته كانت أقرب إلى الديكارتية فى العرض والكانطيّة فى المعالجة. «وللحديث بقية»