رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أوديسا «سينما مصر»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى ملحمة الأوديسا يروى هوميروس أخبار اليونان من خلال البطل «أوديسيوس»، وكيف أنه فى طريق عودته من حرب «طروادة» إلى مملكته «إيثاكا» لاقى المتاعب والمغامرات والأهوال. وعلى طريقة «هوميروس» منحنا المخرج «خالد جلال» ملحمة مسرحية سمّاها «سينما مصر» ؛ فكما عبّرت «الأوديسا» عن أمجاد وعثرات وانتصارات اليونان، مثّلت مسرحية سينما مصر، أحوال الشعب المصرى فى عظمته، وصموده فى مواجهة كل الظروف القاسية التى مرت به ووثقت انتصاره عليها، من خلال مشاهد مختارة بعناية من أفلام السينما عبر مائة عام. 
السينما مرآة المجتمع، والمسرح يظل أبًا شرعيًا لكل الفنون، عندما يتلاقيان يتماهى الخَط الفاصل بين الواقع والخيال. عَرض سينما مصر؛ مزجًا رائعًا تداخلت فيه تأثيرات الميلودراما المسرحية مع سحر الواقعية الاجتماعية، قدَّم لنا فيه خالد جلال سبعة وستين فنانًا؛ هم قوام الدفعة الثانية لقسم التمثيل بمركز الإبداع الفنى التابع لوزارة الثقافة. نحت موهبتهم المايسترو - خالد جلال - ووظّف الطاقات الفنية الكامنة، واستخرجها من داخلهم كاملة بشكل مذهل، لينطلقوًا باقتدار وجبروت فنى فوق خشبة المسرح، يعبرون عن تاريخ الأمّة، من خلال إعادة تمثيل مشاهد مقتطفة من أرشيف أفلام السينما المصرية، تنوعت بين التراجيديا والكوميديا، ليضفرّها المخرج فى سيمفونيات حسيّة صاعدة وهابطة، استمدت صخبها من المشاعر الفيّاضة والانفعالات اللاهثة: إذ نتأثر بدفقات الشجن الهادرة مع هنادى فى «دعاء الكروان»، والرهبة مع عتريس فى «شئ من الخوف»، وما نلبُث ونضحك مع «سكر هانم» والشاويش عطية وإسماعيل يس فى «ابن حميدو» و«إسماعيل يس فى الأسطول»، ولمّا ننجرف فى «الزوجة الثانية» مع موجات قاتمة من الكوميديا السوداء، وكذلك مرثية بكائية هزلية تتمثل فى تناقضات حياة السيد عبدالجواد فى «بين القصرين»، يعود ويسحبنا بمهارة إلى آمال وانتصارات الأمة العربية فى «رُدَّ قلبي» و«أيام السادات» و«جميلة بو حيرد» وامتداداتها التاريخية العميقة فى «الناصر صلاح الدين».
يأخذنا العرض - الذى يدوم لنحو ثلاث ساعات - إلى عالم مختلف وجديد؛ تزهو إضاءات المسرح المتباينة المتسقة مع رونق الموسيقى الدافقة. رغم أن المشاهد المؤدّاة معروفة لنا سلفًا؛ غير أنها خرجت مبصومة بروح الفنانين أنفسهم، فلم يكن العرض تقليدًا أو حتى محاكاة، إنما تتبدى المشاهد وكأنك تراها لأول مرة، تطبع فى نفسك أثرًا مختلفًا ومميّزًا، وباعث تلك الخصوصية؛ أن العرض ليس نقلًا جافًا للمادة الفيلمية، إنما أداء الممثلين جاء بانطباع جديد ومبهر، ابتدعته حركات العيون وتلونات الوجوه وتماوجات الأجساد، انبسط أمامنا زاخرًا بإيحاءات الفانتازيا، ليُحَلق بنا فى فضاء إبداعى يمنحنا خيالًا مختلفًا عن العظماء الممثلين الأصليين، وفى لحظات الإظلام الفاصلة بين المشاهد، يشدو مطربو العرض بأشعار وألحان خاصة بهم من تأليفهم وإبداعهم، ما يمكنّا من التقاط بُعدًا تجريبيا وخلاّقًا فى المشاهد التراثية، بإضفاء الطابع التجديدى عليها. 
انتهيت من مشاهدة عرض سينما مصر، ولَم ينقطع يقينى بأنّ الآمال العظمى للشعوب لا تنفصل أبدًا عن الفن، بل إن هوية وثقافة الأمة تبدأ من فوق المسرح؛ فقد بُنيت الحضارة الهيلينية «اليونانية» من علوم وفلسفة على ملحمتى الإلياذة والأوديسا، واندلعت شرارة المعرفة والآداب فوق مسرح «يوربيدس»، فما أنجزناه فى مضمارى الآداب والفنون، بمثابة القنديل الذى اهتدينا به - وما زلنا - فى نضالنا وكفاحنا، وما نحققه الآن فارقًا فى مستقبل وطننا الغالى؛ الفنانون الرائعون ومعلمهم القدير؛ بمثابة كتيبة جبارة من القوة الناعمة، مدجّجّة بالاستنارة والجمال، تقاتل القبح والجهل، وتنسف معاقل الرجعية وظلامية الفكر، إنهم القوة الناعمة التى ينصلح بها حال مجتمعنا ونسمو بها ونرتقى للأمام.