الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

انحســار الحضارة الغربية «1»

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حطمت الحرب العالمية الأولى الاعتقاد الشائع أن عالم الجنس البشرى يقترب من الكمال، وكانت صدمة الصراع الكارثى للثقافة الغربية مدمرة. عندما انتهت المعركة أخيرًا فى ١٩١٨، وقف العالم مرتاعًا أمام كلفتها الباهظة؛ فلم تدمر حرب واحدة من قبل حضارة بهذه الضراوة، فقد أزهقت المجزرة الصناعية أرواح عشرة ملايين مقاتل، وجرح أكثر من عشرين مليونًا آخرين، ومحيت من الخريطة أربع إمبراطوريات شهيرة فى التاريخ: الألمانية، والهنجارية، النمساوية والعثمانية، والروسية، وكانت روسيا ذاتها تتلوى فى مخاض ثورة مفزعة، وكانت نتيجتها حملات تطهير سياسية ومجاعات هائلة. 
بالنسبة للعديد من المفكرين، أنذرت الكارثة بانهيار الحضارة الغربية. وتمنى آخرون، أقل ميلًا للتفلسف أن يعود العالم إلى المسار الذى سلكه قبل الحرب، وقد تملكهم اليأس عندما تغير بشكل لا رجعة فيه؛ فالقيم والفضائل التى نشأت وترعرعت على مدى قرون، أصبحت موضع شك، وارتياب فيها وبادت. واقترنت التسالى الطائشة، وحفلات المطربين المشهورين، والتقاليع، والرقص المسعور، باللباس العارى والتحرر الجنسى لإثارة الشكوك المزعجة حول اتجاه الثقافة فى المستقبل. وحتى الآراء آنذاك كانت تصل إلى حد التطرف. 
وعلى الرغم من نبوءات بوركهارت المحددة والدقيقة عن الكساد الاقتصادي، والحرب، والدكتاتورية، والهمجية المتزايدة فى الحضارة الأوروبية، لم يكن ساخطًا متشائمًا، فلم يعلن أن الثقافة ستنحدر بلا أمل. وتوصل إلى استنتاجات متجهمة بالتفكير المنطقى والتناظرات التاريخية، وأسقط اتجاهات رئيسة فى عصره على المستقبل. لكن توقعاته لم تجعله متشائمًا رومانسيًا يتذوق كآبة الحياة فى حضارة محتضرة، ولا فيلسوفًا رومانيًا ذا أسلوب هارب ينسحب إلى دراساته فى يأس. واصل الاعتقاد بأن الإبداع الجديد يمكن أن يظهر فجأة وبشكل غير متوقع، ويأتى بحياة جديدة لمجتمعه وثقافته. وطوال سنوات حياته، تمنى هذا فى أوروبا، ربما فى القرن العشرين، وربما بعده. من هنا تأتى أهمية كتاب «رؤية الفوضى.. استطلاعات عن انحسار الحضارة الغربية» من تأليف ب. ج. براندر، والذى نقله إلى العربية هاشم أحمد محمد والصادر مؤخرا عن المركز القومى للترجمة. 
جاءت الحرب العالمية الأولى بالعمل النادر للفيلسوف الألمانى أوزوالد شبنجلر، انهيار الغرب وحظى الكتاب على الفور باهتمام هائل. وتركت الحرب العالمية الثانية العالم يتقبل دراستين رئيستين عن انهيار الغرب: دراسة التاريخ للمؤرخ الإنجليزى آرنولد توينبى، والمحركات الثقافية والاجتماعية لعالم الاجتماع الروسى الأمريكى بيتريم سوروكين. لم يكن المؤلفون الثلاثة فى القرن العشرين ورثة المفكرين الاجتماعيين السابقين، الذين أرادوا تشخيص أو توضيح مشاكل الغرب. ومن المحتمل أن شبنجلر كان معروفًا بدرجة أقل من أسلافه. وبدأ توينبى دراسته من خطة وضعها بنفسه. وسوروكين، كعالم، كان ملمًا بأعمال علماء الاجتماع السابقين، لكنه بنى تحليله كليًا على أسس من ابتكاره الشخصي.