الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

في مديح الرواية الرديئة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى السابع من فبراير عام ١٨٥٧، انعقدت محاكمة الروائى الفرنسى جوستاف فلوبير، أمام محكمة الجنح بباريس. وقد قدمَّهُ المُدَعى العام إلى المحاكمة الجنائية بتهمة: خدش الآداب والعادات العامة، والمساس بالدين. بعدما نشر روايته الشهيرة «مدام بوفاري»، التى اعتبرت فيما بعد ملمحا أساسيا للأدب الإنسانى المعاصر. تم تحريك الدعوى الجنائية ضد فلوبير، بِنَاءً على بلاغ تقدم به المحامي «أرنست ميللر» للادعاء العام. بيد أن «ميللر»، لم يكن وحده الساخط على «مدام بوفاري» بل اتفق معه كثيرون. دعونا نتصور أن أحد أولئك، بعثَ بخطاب إلى المدعى العام الفرنسى يُدين فيه الرواية، ومؤلفها المتهم: 
[سيادة المدعى العام. تحية طيبة وبعد.. 
أعلم أن المتهم جوستاف فلوبير، سوف يمثُل أمام محكمة جنح باريس. وأنا بصفتي: مواطن فرنسى مخلص يُهمهُ الصالح العام، حريص على انضباط الأخلاق، أُرسل لكم خطابي؛ لتضموه لأوراق الدعوى ضد مسيو فلوبير، عساهُ يقنع القاضى بضرورة تشديد العقوبة على المتهم - وأمثاله - والصعود بها إلى الحد الأقصي. 
أمّا مسيو فلوبير- كما تعلمون؛ كاتبٌ منحل، وبالطبع مشكوك فى صدق إيمانه؛ إذ عرض رواية «رديئة»، سماها «مدام بوفاري». أقل ما توصف به أنها: تهدم الأخلاق العامة، تحُض على ارتكاب الرذيلة، تمجد الخيانة الزوجية، تشوِّه أصالة القيم الدينية. روّج لنا مسيو فلوبير الدعارة والفسوق، عبر روايته «الرديئة»، فى قالب حكاية ماجنة عن: امرأة فى شرخ شبابها، تعيش فى الريف تُدعى «إيما بوفاري»، لا تحُب زوجها الطبيب الريفى الساذج، حاقدة بغير حق على حياته البسيطة الشريفة، تتطلع لحياة القصور الأرستقراطية. جمحت بكل عنفوانها الأنثوي، لترتمى فى أحضان عشيق تلو الآخر، مدفوعة بغرائزها المشبوبة، فانغرزت فى أوحال الخيانة الزوجية، أما أبطال نزواتها المتكررة، هُم رجال أنذال أحبتهم - أو هكذا اعتقدت، ثم انصرفوا عنها بعدما زهدوا جسدها الرخيص، وفى النهاية يحاول فلوبير- من باب ذَر الرماد فى العين - إدانة الخيانة والانحراف الأخلاقي، فبدلًا من دمغها بتراجيديا المصير الأسود، جاءت الخاتمة شبه مبهجة، وملوّنة كقوس قزح، غير مُبرِّرة أو رادعة لفظائع إثم إيما، فيجعلها تنتحِر فى رومانسية بالسُم؛ حزنًا على إخفاقها العاطفى المحرّم، ليبقى زوجها المخدوع، هائمًا فى محراب حبها وإخلاصها المزيفين، لمّا اكتشف خيانتها بعد وفاتها - من رسائلها لعشاقها، لم يكرها بل ازداد تعلقًا وشغفًا بها، ثم يموت كمدًا حزًنا على رحيلها. 
كما ترى حضرة المدعى العام - فى هذه الرواية «الرديئة»، أن مسيو فلوبير يقتفى أثر الانحراف المجتمعى بلا طائل. أتساءل: ما الذى يفيدنا من مواجهة الواقع بكل قبحه، فلو كانت الرواية - كما يدعون - مرآة المجتمع، فمن الأفضل تحطيمها على أن نرى عيوبنا فيها بمثل هذا الوضوح البشع. علينا غض الطرف عن الآثام المتأصلة فى ضمير المجتمع، وتركها للأيام لتتكفل بعلاجها فى صمت، فذلك أفضل من الإشارة لها بحجة مداواتها. لست أرى دافعًا وراء إصرار مسيو فلوبير، على نَكش سلبياتنا بدلًا من تضميدها وإعطاءها شتى أنواع المسكنات حتى تبرأ، سوى أنه يريد تثوير المجتمع، وتأليبه على ذاته التقيّة - التى غرس الله فيها حبه وطاعته؛ حريٌ بكل إنسان مؤمن ليس أن ينبذ رواية فلوبير فحسب، بل يتوجب عليه وهو يترنم بالكتاب المقدس، أن يخفض صوته متى جاءت سيرة النبيّيّن: لوط، ويوسف، ولا يتمعن فى الإفاضة داخل تفاصيل حكايتهما، ثم محاولة تجنيب أولاده سماعها حتى يبلغوا سن الرشد. لذا فمقتضيات العدالةِ تستوجب إلقاء مسيو فلوبير وراء القضبان؛ لأنه تجرأ وصارحنا فى روايته «الرديئة» بأوضاعنا الطبقية والإنسانية المتردية بكل وقاحة، وآلمنا بصراحته المفرطة، أوجعنا بالتدفقات اللاهثة النابعة من النفس البشرية. يستحسن نبش قبور: «شكسبير» و«فولتير» و«روسو»، والإتيان برفاتهم الملعونة، وتكويمها إلى جانب فلوبير، ونحاكمهم جميعًا بتهمة إفساد العقول، تحت ستار برّاق؛ إيقاظ الآمال الكبرى نحو الحريات المزعومة، ليزدهر مع رواياتهم منطق العصيان، وتنبُت بذور التمرد على ثوابتنا وقيمنا الأصيلة، إذ تتلقى الأدمغة قصائدهم التحريضية، وتتعاطى الأذهان مسرحياتهم الخبيثة، فتجُرُ أوروبا بأسرها خلف كتاباتهم المغرضة؛ أوروبا الصالحة المتدينة، التى فقدناها منذ أيام ١٧٨٩ (الثورة الفرنسية). لتنحدف من يومها الأمة المجنى عليها، إلى دَوّامة لا تنتهى من الثورات وإقصاء الكرادلة، لتطيح الجماهير الحمقاء بسُلطة الأب على أولادهِ..] 
***
هذه الرسالة ربما تكون كتبت - هى بعينها أو مثلها - منذ ١٦٠ عامًا، وحتى الآن نكادُ نسمع غلاظة نبرتها، ونلمس فيها طزاجة الاتهامات المعاصرة. رغم أن ظاهر الرسالة هجاءً للرواية، غير أنها فى الواقع تمتدحها وتنتصر لها: أثرًا، وصدقًا، وتعبيرًا. 
الأزمة ليست قضية فلوبير عام ١٨٥٧ فى باريس، إنما محنة الكُتّاب والمفكرين والأدباء فى كل زمان ومكان، ثمن رسالة الأدب الشاقة على مر العصور، وما يواجهها من ظلامية وتنمُّر. كسر وتحطيم الجمود، لا يتأتى بسهولة ويُسْر، وكذلك لا يتم - أيضًا - دون ضجيج..