السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

أيام طهران الصعبة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

مرت إيران منذ ثورة الجمهورية الإسلامية وحتى الوقت الراهن بالعديد من الأزمات، سواء تحديات داخلية أحاطت الثورة فى بدايتها وهددت استمرارها، منها التمرد الكردى الذى بدأ مع الثورة عام 1979، وهجمات جماعة الفرقان الراديكالية، وصدامات رجال الدين وجماعة مجاهدى خلق، أو تلك المتعلقة باختبار قدرة إيران العسكرية فى الحرب مع العراق، والتى رضخت فى نهايتها وأعلنت وقف القتال. وكذلك التحديات الأمنية المتعلقة بمواجهة الانتفاضات والتظاهرات عبر تاريخها، وآخرها فى 2009. أو الأزمات المتعلقة بالعقوبات المتكررة المفروضة عليها لمدة عقود. استطاعت إيران بشكل أو بآخر الخروج منها عبر استراتيجيات قائمة على التكيف أو الخروج بأقل الخسائر، للوصول لأهدافها رافضة التخلى عن عقيدتها القائمة على المشروع الفارسي، وتصدير الثورة بما يكتنفها من إصرار على التدخل فى الشئون الداخلية لدول الإقليم، وتشكيل كيانات وميليشيات موازية تستخدمها لتحقيق أهدافها. وبرغم تلك الخبرة فى التعاطى مع الأزمات، غير أن حجم التحديات التى تواجهها طهران اليوم باتت أكثر تهديدًا، خاصة منذ وصول الرئيس ترامب للحكم وإدارته المتمثلة فى مايك بومبيو، وزير الخارجية، وجون بولتون مستشار الأمن القومي، والمعروف عنهما عداءهما لسياسات طهران، كما أن الأزمات شملت الداخل والخارج، وهو ما يمثل تحديًا نوعيًا غير مسبوق لإيران، ويشكل اختبارًا شديد الصعوبة للثورة الإسلامية نفسها وقدرة النظام على الاستمرار.


حزمة عقوبات

شكل خروج أمريكا من الاتفاق النووى الذى أبرمه أوباما مع إيران فى ٢٠١٥ ضربة موجعة لطهران، ليس فقط على اعتبار فقدان الرئيس روحانى، ووزير الخارجية جواد ظريف للورقة الأهم التى كانت تعتبر النجاح الأكبر لهما، لكن لما نتج عنها من وجود خط جديد من العقوبات المفروضة.

وتعد حزم العقوبات الأخيرة الأقوى فى تاريخ إيران، خاصة أنها امتدت لقطاعات استراتيجية مثل البنوك والتشييد والبناء وصادرات النفط، والمعاملات مع البنوك المركزية..إلخ، الأمر الذى أحدث شللًا تامًا فى الاقتصاد الإيرانى بخروج عشرات الشركات العالمية، وتبخر آمال النظام بالقضاء على الفقر والبطالة التى طالت فئات كبيرة من الشعب، حيث بلغت البطالة أكثر من ٢٠٪، وعمق من أثرها إجراءات الحكومة برفع الدعم، وأصبح حوالى أكثر من ٤٠٪ من الشعب الإيرانى تحت خط الفقر. وبرغم محاولة بعض الدول الأوروبية مساعدة طهران للحفاظ على فرصها الاقتصادية معها، وقيامها بإنشاء آلية مالية لتقليص أثر تلك العقوبات، غير أن تلك الإجراءات لم تنجح فى تجاوز تلك الأزمة، الأمر الذى انعكس على بروز حركة احتجاجات فى الداخل الإيرانى بنهاية ديسمبر ٢٠١٨، والتى امتدت لبدايات ٢٠١٩، وطالت العديد من المحافظات والأقاليم الإيرانية، وفشل النظام فى احتوائها إلا بالقبضة الأمنية والاعتقالات.


تصفير الصادرات

لعدد من الاعتبارات، كانت أمريكا قد أعطت بعض الاستثناء لـ٨ دول فى استيراد النفط الإيراني؛ وهى إيطاليا، الصين، الهند، اليابان، كوريا الجنوبية، تركيا، اليونان، تايوان. غير أنه مؤخرًا أنهى الرئيس الأمريكى تلك الإعفاءات اعتبارا من مايو ٢٠١٩، بهدف تعظيم الخسائر وتصفير صادرات طهران من النفط، باعتبار أنها تعتمد عليه بنسبة ٤٠٪ -٥٠٪ على الأقل من إيرادات الدولة، حيث تحقق سنويًا حوالى ٥٠ مليار دولار، ونجحت العقوبات الأمريكية الأخيرة فى حرمان النظام الإيرانى من حوالى ١٠-١٥ مليار دولار.

ومثل هذا الإجراء بإنهاء إعفاءات النفط من شأنه أن يعظم من الأزمة فى طهران، ليس فقط بقدرتها على دعم عملياتها فى الخارج، ولكن أيضًا فى الداخل، وهو ما ينذر باتساع التظاهرات وتهديدها للنظام. ففى الوقت الحالى وصلت نسبة الانكماش فى الاقتصاد الإيرانى حوالى ٦٪، كما بلغ معدل التضخم ٥١.٤٪، كما تراجعت إيران من المركز الثالث إلى المركز الرابع فى ترتيب الدول الأكبر فى إنتاج النفط فى «أوبك». وتلك الأرقام مرشحة للاستفحال حال نجاح الولايات المتحدة بفرض وقف الإعفاءات، رغم تحفظ الصين، أكبر مستورد للنفط فى العالم، والتى تربطها ملفات اقتصادية متأزمة مع الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرًا، وتركيا التى تعتمد فى احتياجاتها على ٤٠٪ من النفط الإيراني، وهو ما سيشكل أزمة لها خاصة فى ضوء عدم قدرتها فى التعامل مع البدائل التى طرحتها الولايات المتحدة نظرًا لاعتبارات الثقة والتبعية، خاصة أن علاقات تركيا وأمريكا ليست جيدة الفترة الأخيرة.

وأغلقت الولايات المتحدة الطريق أمام إيران بعد الزيارة الأولى لروحانى للعراق فى محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه على اعتبار وجود بعض النفوذ لطهران فى الداخل العراقى يمكن استثماره فى تخفيف وطأة العقوبات وقيام بغداد بدور وسيط، غير أن الولايات المتحدة الأمريكية أعقبت ذلك بالتأكيد على التزام العراق بالعقوبات على طهران.


الحرس الثورى منظمة إرهابية

كانت هناك العديد من الدعوات السابقة لتصنيف الحرس الثورى كمنظمة إرهابية، غير أنه لم تتخذ خطوات جدية فى ذلك الأمر نظرًا للعديد من الاعتبارات؛ حيث إنه لعقود طويلة كان هناك قواعد أمريكية شبه ثابتة فى إدارة الصراع مع طهران، ولم يكن هناك قدرة أمريكية على اتخاذ خطوة مثل تصنيف الحرس الثورى كمنظمة إرهابية، وحتى عندما أرادت فعل ذلك فى السابق، قامت وزارة الخزانة الأمريكية بتصنيف فيلق القدس، وهو الذراع العسكرى للحرس الثوري، ولم تكن لديها القدرة على إدراج الحرس الثورى بشكل كامل.

كما أنه كانت أحد أهم أسباب التخوف من اتخاذ ذلك الإجراء هو وجود مخاوف من وزارة الدفاع الأمريكية، ووكالة الاستخبارات الأمريكية من استفزاز قوات الحرس الثورى ما يدفعها بالقيام بعمليات عدائية ضد المصالح الأمريكية، أو التحرش بقواتها الموجودة فى عدد من الدول فى المنطقة، وهو ما جعل استراتيجية العقوبات الاقتصادية فقط هى الخيار الأول للولايات المتحدة الأمريكية تجاه طهران.

غير أن ذلك التحول واتخاذ قرار بتصنيف الحرس الثورى كمنظمة إرهابية نابع من عدة تحولات وله دلالات مختلفة، أبرزها؛ أولًا، أن القرار انعكاس لطبيعة تكوين صانع القرار الأمريكي، فذلك القرار يؤكد أن هناك معدل آخذ فى الارتفاع فى التصعيد ضد إيران، وأنه لا أفق لتهدئة أو تفاوض فى المستقبل القريب، خاصة فى ظل وجود إدارة أمريكية تتبنى مواقف صارمة وراغبة فى تقويض وتطويق قدرات الدولة رغبة فى تغيير النظام سواء من الداخل أو الخارج.

من ناحية ثانية، فإن هذا القرار يشكل رغبة أكيدة من الولايات المتحدة الأمريكية لتصعيد المواجهة مع إيران، والدخول فى مرحلة جديدة تتجاوز حتى مرحلة العقوبات الاقتصادية النوعية الأخيرة، رغبة فى خلق حالة شلل تام لإيران داخليًا وخارجيًا.

ثالثًا، تصنيف الحرس الثورى كمنظمة إرهابية وجعلها فى خندق واحد مع القاعدة وداعش، يفرض نمط مغاير من الإدارة الأمريكية فى التعاطى معه، وهو أشبه ما يكون بفخ أمريكى لاستفزاز إيران وجر الحرس لممارسات غير مسئولة تورطه، وهو ما جعل المحلل السياسى والدبلوماسى الإيرانى السابق، فريدون مجلسي، يطالب قادة الحرس الثورى بعدم القيام بأى خطوة استباقية فى الهجوم ضد القوات الأمريكية.

رابعًا، يعكس تصنيف الحرس حالة الإدراك الأمريكى بتأثير ذلك القرار ليس فقط على المستوى السياسى، ولكن أيضًا على المستوى الاقتصادى من حيث سيطرة الحرس الثورى الإيرانى على ثلث الاقتصاد الإيرانى على أقل تقدير، هناك دراسات تشير إلى أن حجم سيطرة الحرس الثورى عبر شركات مثل خاتم الأنبياء وغيرها، يبلغ حوالى من ٣٥-٤٠٪ من الاقتصاد الإيراني- وهو ما شأنه أن يقتل الاقتصاد الإيرانى بشكل مضاعف.

وكان الرد الإيرانى على هذا القرار يحمل لهجة عنيفة موازية خاصة من المجلس الأعلى للأمن القومى الإيرانى، الذى صرح أن طهران ستعتبر القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم) وجميع القوات المتعلقة بها جهات إرهابية. ورغم أن ذلك التصريح يحمل نوعًا من «الكوميديا السياسية»، غير أنه ليس مستبعدًا القيام بإجراءات عنيفة على الأرض، لكنها ستكون حذرة للغاية خاصة مع اللهجة الأمريكية الصارمة.

وعلى مدار عقود، استطاع الحرس الثورى أن يستمر كجيش موازى له صلاحيات أكبر حتى من الجيش النظامى للدولة، وأوجد صلاحيات تجاوزت العسكرى إلى السياسى والاقتصادي، غير أن القرار الأخير يشكل تطويقا كبيرا لقدرته وتحديًا كبيرًا له فى الإقليم.


خلافات النخبة السياسية

بدت خلال الفترة السابقة عدد من المؤشرات التى توحى بعدم وجود توافق بين عناصر النخبة السياسية فى إيران، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال عدة ملاحظات:

صراع الأجنحة: أوجد الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى فرصة كبيرة للمتشددين فى إيران، وخاصة الحرس الثورى للهجوم على الرئيس حسن روحاني، وهو ما جعل الخلاف يتسع، وخاصة بتحميله مسئولية تردى الأوضاع الاقتصادية وزيادة الاحتجاجات فى الداخل. وقد ظهرت وطأة تلك الخلافات مع ردة الفعل الخاصة بوزير الخارجية محمد جواد ظريف، الذى أعلن استقالته عبر «إنستجرام» نتاج عدم توافق داخل النخبة الحاكمة وبما يحمله من ضغوط ومسئولية شديدة، قبل أن يتراجع عن استقالته.

تغيير قيادة الحرس الثوري: كما أنه وبتطور مفاجئ، وبعد نحو عامين من تمديد مهمة قائد الحرس الثورى الإيرانى محمد على جعفري، وقبل عام من انتهاء فترته الممددة، جاء قرار المرشد الإيرانى على خامنئي، تغيير قائد الحرس الثورى بعد ما يقرب من ١٢ عامًا قضاها فى هذا المنصب الذى تولاه منذ ٢٠٠٧. وقد تزامن ذلك التغيير بعد إدراج على قائمة الإرهاب الدولي، وهو ما يعطى دلالة على الارتباك السياسى الواضح.

كما أن تغيير قيادة الحرس الثورى يطرح أسئلة قديمة تتعلق بعدم الرضاء من قرارات المرشد الأعلى فى الفترة الأخيرة، والتى شملت فصل قيادة فيلق القدس بقيادة قاسم سليمانى عن قيادة الحرس الثوري، وأيضًا فصل قيادة استخبارات الحرس عن قيادة الحرس، والقرار الأخير يعد تهميشًا للجنرال جعفرى الذى يجلس على رأس الحرس بدون صلاحيات حقيقية.

روحانى والحرس الثوري: يرى البعض أن الرئيس حسن روحانى ينظر للحرس الثورى باعتباره هو السبب الرئيسى فى الأزمات التى تعانى منها طهران، غير أن ذلك التصور عاد ليطرح بقوة ويثير موجة خلافات مع تصريحات عضو لجنة الأمن القومى والسياسة الخارجية فى البرلمان الإيراني، جواد كريمى قدوسي، وهو من أشد المنتمين لجناح المحافظين، واتهامه لروحانى بالسعى نحو حل الحرس الثوري، وأنه وصف تدخلات الحرس الثورى فى المنطقة بالـ«مـُخرّبة». ولا ينفصل ذلك عن سياق الرسالة التى وجهها رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، اللواء محمد باقري، لرئيس الجمهورية قبل شهرين، ليطلب منه مناقشة ميزانية الحرس الثوري، والتى وصفها أنها مبالغ فيها و«مبذرة».


أزمة السيول

تعرضت إيران فى الأسابيع الماضية لموجات كبيرة من السيول والفيضانات، طالت حوالى ١٩٠٠ مدينة وقرية إيرانية، وراح ضحيتها ٦٢ شخصًا، ونزح حوالى ٨٦ ألف شخص إلى أماكن إيواء، علاوة على الخسائر التى ألحقتها بالقطاع الزراعى تصل قيمتها إلى حوالى ٣٥٠ مليون دولار على الأقل.

وقد ضاعف من تأثير تلك السيول ما أقدمت عليه الحكومة الإيرانية من تحويل مجارى الأنهار ونقل مياه الأنهار إلى داخل المدن الرئيسية الإيرانية الواقعة ضمن المحافظات الفارسية، ما يشكل امتداد لسياسات فاسدة للنظام فى إدارته لملف الموارد المائية، وملف إنشاء السدود -وصلت إلى ما يقرب من ١٣٣٠ سدًا بين مُشيد بالفعل وما هو تحت الإنشاء- بخاصة فى المناطق التى يقطنها الأقليات، على سبيل المثال حرمان الأراضى الزراعية فى الأحواز من المياه من خلال بناء عدد من السدود الضخمة على الأنهار، ما أدى لتجمع المياه وفيضانها مع السيول.

كما أن تعاطى الحكومة مع الأزمة -رغم مشاركة عناصر الحرس الثورى الإيرانى الأكثر قدرة واستعداد- يشكل انتكاسة كبيرة تضاف إلى سجل القصور فى معالجة قضايا الشعب الإيراني.


مستقبل الدور الإقليمى

وفقًا للمعطيات السابقة، يظل الدور الإقليمى لإيران ومساحة النفوذ الإقليمي، وقدرتها على الصمود إزاء التهديدات الداخلية ومحاولات الولايات المتحدة الأمريكية توليد الانفجار من الداخل، تظل مرهونة بعدد من الاعتبارات:

أولًا- خريطة وأدوات الضغط الإيرانية: تمتلك إيران العديد من الأدوات المتمثلة فى حلفائها من الدول مثل الصين التى تعتمد مبدأ المصلحة فى علاقتها ووارداتها من النفط الإيراني، والتى ستقاوم القرار الأمريكى، غير أنها لن تستطيع الذهاب بعيدًا لمرحلة الصدام إذا ما أصرت الولايات المتحدة الأمريكية وصعدت فى هذا الأمر.

كما أن تركيا بدأت فى استثمار الأزمة عبر تبادل الغزل السياسى مع طهران فى لقاء شاويش أوغلو وزير الخارجية التركى مع نظيره جواد ظريف، فى ظل تصريحات برفض تركيا تصنيف الحرس كتنظيم إرهابى كونه سيحدث فوضى كبيرة. وعبر الوصول لمقدمات تفاهمات فيما يتعلق بالشأن السوري، على اعتبار رغبة تركيا فى تواجد قواتها لتأمين مصالحها فى ظل محاولة طهران تقريب وجهات النظر وإعادة العلاقات بين دمشق وأنقرة، وتأكيدات «ظريف» أن نشر قوات الجيش السورى سيكون خير ضمانة لأمن تركيا. غير أن الدور التركى رغم أهميته لكنه لن يشكل تأثيرًا مصيريًا فى وضع إيران الإقليمى ولن يصمد طويلًا إزاء الرغبة الأمريكية التى ربما تدخل فى تفاهمات مع أنقرة بشأن سوريا. وعلى اعتبار أن الصين وتركيا سيدعمان طهران، فأعتقد أن هامش ما سيقدمونه لن يستطيع إنقاذ طهران من ورطتها الحقيقية.

كما أن الدور الروسى لا يتجاوز اعتبارات الملف السورى من التنسيق وحفظ التوازن واستخدام طهران لتحقيق أهداف نوعية فى مواجهة أمريكا، كما أن موسكو لا ترضى بشكل تام عن أهداف إيران فى سوريا، وهو ما ظهر فى خلافات مستترة فى غير موقف. وبالنسبة للدول الأوروبية، فإن الأمر قد تجاوزها تمامًا، ولا تستطيع تقديم موقف مواجه وحاد إزاء الرغبة الأمريكية.

وربما يأتى تصريح رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية الجنرال محمد باقرى، بأن «إيران يمكنها الصمود دون الاعتماد على النفط»، هو اعتراف واستسلام بحقيقة الوضع، وأن طهران لا تملك ما تفعله.

غير أن أغلب الظن، أن طهران لن تقف مكتوفة الأيدي، وستعمل على تجاوز خطاب التهديدات إلى مرحلة الفعل، لكنها تنتظر فى ترقب المبادرة الأمريكية بالفعل، حتى تتمكن من تحريك ميليشياتها متمثلة فى حزب الله فى لبنان باتجاه إسرائيل وكذلك قوات فيلق القدس من سوريا، أو تعظيم تهديداتها فى الإقليم باستفزاز الخليج وإطلاق الصواريخ مجددًا على السعودية عبر الحوثيين فى اليمن.

لأن سمعة النظام فى إيران ستكون على المحك بشكل متكرر وخاصة مع تهديدات جواد ظريف، الذى قال، «إن على الولايات المتحدة أن تتحمل عواقب ذلك»، وهو ما جاء تأكيدًا على حديث المرشد الأعلى على خامنئى، الذى توعد بالرد، وكذلك حسين سلامى قائد الحرس الثورى الجديد.

لكن الإشكالية تتمثل فى أن تأثيرات العقوبات الأمريكية بات ظاهرًا بشدة ووصل أثره إلى تلك الميليشيات؛ حيث اضطر النظام الإيرانى لتقليص الميزانية العسكرية وحجم المخصصات للحرس الثوري، كما أعلن حزب الله مؤخرًا أنه يمر بضائقة مالية، وأعلن عن تلقى التبرعات. ويعكس ذلك خط الخطاب المهادن الموازى الذى يحاول روحانى فتحه مع أمريكا من خلال الحديث عن «تفاوضات مشروطة»، وتلميحات ظريف لإمكانية القيام بعملية تبادل سجناء مع الولايات المتحدة الأمريكية لتهدئة الأجواء، وأيضًا التعاون ومساعدة أمريكا فى بعض الملفات المشتركة مثل أفغانستان والعراق.

ثانيًا- تهديدات غلق مضيق هرمز: التهديدات الإيرانية بإغلاق مضيق هرمز ردًا على الإجراءات الأمريكية لم يكن هو الأول من نوعه، لكنها تهديدات تكررت غير مرة وفى سياقات متعددة، لكن الأمر ينطوى على مخاطرة كبيرة تتمثل فى أن مياه مضيق هرمز فى الخليج العربى هى مياه دولية بامتياز، وأن أى تهديد بغلقه سيؤثر على الملاحة الدولية، وسيكون على طهران مواجهة المجتمع الدولى الذى يمر من خلال المضيق حوالى ٤٠٪ من تجارة النفط فى العالم.

وربما تصريحات العقيد إيرل براون، المتحدث باسم القيادة الوسطى الأمريكية، قد حسمت هذا الأمر، حيث أكد على أنه لدى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها الجهوزية المطلوبة للرد.

غير أن الإقدام على مواجهة مباشرة وحرب بالمعنى التقليدى يظل خيارًا مستبعدًا رغم توتر العلاقات واستفحال الأزمة المستمرة، لأن إيران لا تتحمل حربًا من هذا النوع فى ظل الظروف القائمة، وبالتالى فإن لديها سقف للتصعيد، كما أن أمريكا لا حاجة لها بتلك الحرب، خاصة أن ترامب بدأ بالفعل الاستعداد بحملة انتخابية للانتخابات الرئاسية المقبلة ٢٠٢٠ وهو ما يجعله حذرًا فيما يتعلق بقضية فتح ساحات جديدة.

ثالثًا- إشكالية الدولة والثورة، هل تستطيع طهران حل المعادلة؟: مستقبل النظام السياسى فى إيران، بل والثورة الإيرانية، مرتبط بحل المعادلة الصعبة المتمثلة فى إشكالية الدولة والثورة، فهل ستتخلى إيران بسهولة عن حلم الدولة الفارسية، وهل ستقبل خلع الخطاب الأيديولوجى والعباءة الدينية؟ أعتقد أن طهران تعى جيدًا أن تخليها عن طموحاتها التدخلية وتصدير الثورة سيجردها من أدواتها ودورها المميِّز، وإلا ستتحول إلى دولة عادية لا وزن إقليمى لها. إشكالية إيران تتمثل فى المشروع الأيديولوجى القائم على أطماع تاريخية مثلها مثل حلم الدولة الصهيونية، وأحلام استعادة الامبراطورية العثمانية لدى تركيا. ولقد أطلق هذا السؤال وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو عندما قال: «نحن نريد فقط أن تكون إيران دولة طبيعية». وفى هذا التساؤل تسير كل الإجراءات الأمريكية فى سياق إرغام إيران إلى العودة من منطقة الثورة إلى منطقة الدولة.

رابعًا- سياسة النفس الطويل واستثمار المعضلة الترامبية: «ترامب سيرحل.. وستبقى إيران» يمثل هذا التصريح للرئيس حسن روحانى اختصار للسياسة الإيرانية فى التعاطى مع الإجراءات الأخيرة وفق سياسة النفس الطويل، ومحاولة الصمود حتى الانتخابات الأمريكية المقبلة ٢٠٢٠، على أمل وجود رئيس من الديمقراطيين يمكن البدء معه من جديد فى تفاهمات أقل حدة ومواجهة.

وتعتمد طهران فى ذلك على نفس الأدوات؛ الخطاب الثورى للداخل، ووصف أمريكا بعدو الشعب الإيرانى والشيطان الأكبر، رغم تراجع جدوى ذلك الخطاب فى الإقناع، وأيضًا رفع رايات العاطفة من العداء لإسرائيل واستثمار إجراءات ترامب من نقل العاصمة الأمريكية للقدس والاعتراف بالحقوق الإسرائيلية فى الجولان.

علاوة على استثمار السلوك «الترامبى» فى إظهار إيران بشكل المقاوم للهيمنة الأمريكية، وبخاصة تراجع مكانة الولايات المتحدة الأمريكية نسبيًا جراء الانسحاب من عديد المعاهدات الدولية، وآخرها الانسحاب من المعاهدة الدولية للأسلحة التقليدية التى وقعها سلفه باراك أوباما عام ٢٠١٣، وهو ما يجعل سمعة الولايات المتحدة الأمريكية على المحك فيما يتعلق بالوفاء بالتزاماتها ومسئولياتها، وهى الدولة العظمى، وبما يؤثر على استقرار العلاقات والاتفاقات الدولية، وهو ما ينعكس على التفاعلات الدولية ومصداقية واشنطن، وهو ما يجعل الحقبة الحالية فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية مليئة بالتناقضات والخروج عن العرف الدبلوماسى الأمريكي، وأن النمط الترامبى فى الحكم والتفرد بالرأى والقرارات العشوائية ستشكل عائقًا أمام تسوية العديد من القضايا على المستوى العالمى والإقليمي.

ختامًا؛ يمكن القول إن العقوبات الأمريكية والإجراءات المتتالية تجاه إيران ستنجح فى تقويض الدور الإقليمى لإيران ومحاصرته بشكل كبير، وسيؤثر على أدواتها ودرجة تأثيرها فى الملفات المختلفة الفترة المقبلة، غير أن عملية هدم النظام من الداخل أو القضاء على مرحلة الثورة الإيرانية سيحتاج مزيدا من الضغط والاستمرار لفترة أطول، وسيتحدد مستقبل ذلك فى ضوء الانتخابات الأمريكية المقبلة، التى ستشكل ضربة قاصمة لطهران حال بقاء ترامب أو وصول مرشح يحمل نفس النهج السياسي.