الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

النخبة وماهية أحداث 1919 "7"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تم القبض على سعد زغلول فى 8 مارس 1919، كرد فعل للمشاركة الجماهيرية غير المسبوقة التى ظهرت فى شكل التوقيعات التى حصل عليها ما يسمى بوفد القوى الوطنية التى فوضها الشعب للمطالبة بالاستقلال بعد تلك الوعود التى وعد بها الإنجليز بمنح الاستقلال لمصر بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، خاصة بعد أن بدأت أمريكا لعب دور الوريث الاستعمارى، وأن كان ذلك قد بدأ بشكل الحملان، وذلك من خلال ما يسمى بمبادئ الرئيس الأمريكى ويلسون التى أقرت حق تقرير المصير للشعوب المستعمرة. فى ذلك الحين كان الضمير الجمعى للمصريين بدأ يُعيد وجوده، الذى لا يغيب أبدًا، وأن كان ينزوى أحيانًا، ولا يخرج إلا عندما يُمس الوطن أو تُوخدش الوطنية، خاصةً أن أحداث مقتل بطرس غالى 1910 والمؤتمرين القبطى والمصرى 1911، وذلك الصراع الطائفى بين الصحف والانتماءات ما بين الدولة العثمانية وممالات الاحتلال الانجليزى، وبين هذا وذاك ظهر ذلك الخطر الذى يهدد، وما زال يهدد، الوحدة المصرية الجامعة، وهو ما يسمى الفتنة الطائفية بين المصرى المسلم والمصرى المسيحى، وردًا على الفريقين من الوطنيين والعقلاء من هنا وهناك، وفى هذا المناخ الوليد الذى أستعاد الكامن الوطنى فى النفوس، خرجت المظاهرات حاشدة إلى منزل سعد زغلول، وخرج لهم عبدالعزيز فهمى، وهو أحد القيادات مع سعد زغلول ورفاقه الذين قاموا بعملية جمع التوكيلات للوفد والمقصود بالوفد هنا المجموعة التى ستتفاوض مع الإنجليز وليس حزب الوفد الذى أنشئ فى 1922 استغلالًا للهبة الجماهيرية عام 1919 المساندة للوفد المفاوض.
لم يكن لسعد ورفاقه أن يتصوروا تلك الهبة الجماهيرية الرائعة والمباغتة للجميع، حتى إن عبدالعزيز فهمى قال لهم «عودوا إلى منازلكم وأتركونا ندير الأمر مع الإنجليز»، ومع ذلك خرجت الجماهير، وزادت الأمور اشتعالًا ضد الإنجليز خاصة فى محافظات الصعيد «أسيوط، المنيا».. فما حجم المشاركة القبطية فى تلك الهبة؟ أعتقد بالقراءة الموضوعية ومن قراءة الواقع السياسى المعجون بذلك المناخ الطائفى كانت المشاركة نخباوية وليست جماهيرية، حيث إن مقتل بطرس غالى وما تبعه من طائفية أسست لفرز طائفى استغله الإنجليز ببراعة كعادتهم إلى جانب المؤتمر القبطى الذى عقد فى اسيوط وموله أخنوخ فانوس، كما أوضحنا فى المقالات السابقة، بالإضافة إلى أسباب كثيرة اجتماعية وثقافية وطائفية، فقد كانت المشاركة نخبوية تمثلت فى النخبة الاقطاعية التى ذهبت إلى سعد زغلول، وكذلك فى القمص سرجيوس الذى كان يمتلك شخصية ثورية صدامية، ومع ذلك فهذه المشاركة النخبوية لم تقلل من قدر المشاركة حيث إن المشاركة ذاتها فى ذلك المناخ مثلت متغير جذرى فى بداية فكرة الوطنية المصرية الجامعة.
أما طلب عبدالعزيز فهمى من الجماهير بالعودة وفض المظاهرات فله ما يعنيه، فبكل وضوح وبمحاولة قراءة الأحداث بشكل أكثر تحليلًا وبعيدًا عن الشعارات الموروثة وبعيدًا عن التاريخ المدرسى الملقن والموروث، نقول أن اهمية 1919 كانت فى الشعبية والتلقائية الرائعة التى لا علاقة لسعد ورفاقه بها، فسعد لم يقد الجماهير ولم يضع فى حساباته الجماهير، لكن تلك الجماهير هى التى قادت سعد ورفاقه وهى التى زَعمتهم وجعلتهم زعماء، ذلك لأن سعد لم يكن ثوريًا بالطبع لأنه هو ابن مؤسسات الدولة وهو صنيعتها منذ صعوده إلى المناصب العليا، ولذلك لم يضع سعد فى أى وقت وتحت اى حساب تلك المواجهة الجماهيرية ضد الإنجليز، ويكون هو زعيمها، وكما قلنا سابقًا فإن سعد حين كان وكيلًا للجمعية التشريعية لم يطالب بالاستقلال ولم يذكر شيئا عن الدستور، ولكن يمكن أن نصف سعد ورفاقهم بأنهم إصلاحيون وليسوا ثوريين، فالزعيم الثورى هو من يسعى للتغيير بعيدًا عن مؤسسات الدولة بل يرفض هذه المؤسسات، أما الزعيم الإصلاحى هو الذى يسعى للتغيير البطىء من خلال المؤسسات القائمة، كما هى بدون تغيير، وسعد كان ابن هذه المؤسسات، سواء كان وزيرًا ينفذ أوامر الإنجليز أو عندما كان وكيلًا للتشريعية، حيث كانت قناعاته هى الحوار مع الإنجليز حتى يمكن الحصول على ما يجودون به، وفى إطار رغبتهم وعلى ضوء مصالحهم كمحتلين للوطن. وهنا يمكن أن ننعت سعد بالبرجماتى النفعى وليس سعد فقط، ولكن هو مثل كل النخبة السياسية التى نتحدث عنها فى هذه السلسة، لأن هذا يرجع إلى قراءة الواقع السياسى حين ذاك. ذلك الواقع المرتبط بتاريخ مصر السياسى، ذلك التاريخ الذى عانى من كل صنوف الاحتلال على مر العصور ومن كل ألوان أنظمة الحكم المستبد التى لا تضع للشعب أى اعتبار، وهو الشىء الذى غيّب الفعل والتأثير الجماهيرى المباشر عن السياسة وعن المشاركة السياسية والمشاركة فى اتخاذ القرار، ما أسقط عن هذه النخبة الرؤية السياسية والحزبية التى تحمل برنامجًا سياسيًا يتفاعل مع الجماهير ويغير الواقع، ولذلك لا نستطيع أن نقول على أحداث 1919 إنها ثورة بالمفهوم السياسى والعلمى لأن الثورة هى إسقاط نظام الحكم واستيلاء الثورة وزعماء الثورة على الحكم كى يحققوا رؤيتهم وبرنامجهم الثورى الذى يغير الواقع السياسى والاقتصادى والاجتماعى تغييرًا جذريًا للأحسن ولصالح الجماهير التى تعانى.فهل حدث هذا بعد 1919؟! لا. ولذا نقول إن 1919 هى هبة جماهيرية بامتياز خرجت ضد الاحتلال مُطالبة بالإفراج عن سعد كرمز مصرى وطنى إخذ على عاتقه هو ورفاقه محاورة الإنجليز لكى يحققوا وعدهم بمنح مصر الاستقلال، وبعد أن دفعت مصر والشعب المصرى الثمن فى الحرب العالمية الأولى، ولذلك فالهبة الجماهيرية التى خرجت وتتنازعها عوامل كثيرة اجتماعية واقتصادية وتحررية من واقع سياسى مستبد وقاهر وظالم وطبقى، هنا تحركت الشخصية الحضارية المصرية لتعبر عن المكنون الداخلى الذى خرج فى هذا الإطار، وفى هذا التوقيت ولهذا السبب، ودليل تلقائية الهبة غير المنظمة وغير المتوقعة فعند خروج الجماهير التلقائية كانت تهتف من ضمن الهتافات، وتقول: «مصر والسودان لنا وإنجلترا إن أمكن وهنا تندر سعد ساخرًا على درجة الوعى التلقائية للجماهير!
فهل كانت الهبة ليبرالية بعد دستور 1923 وما موقف سعد من هذا الدستور الذى تغنى به، وما زال الجميع؟ سنعرف فى المقال المقبل بإذن الله.