رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أفعال الماضي الناقصة فذلكة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نتراوح كثيرًا فى عالم الكتابة (والفلسفة) بين الرغبة القاعدية المريحة جماعيا لفهم ما نقوله، وهى رغبة الإنسان/ المعلم بالفطرة، والرغبة المعقدة فى قول ما نفهمه، دون الاهتمام بالهاجس الشارح. من منطلق عبر عنه أبو تمام بشكل جريء، حينما سئل: لماذا لا تقول ما يفهم؟ فأجاب ولماذا لا تفهمون ما يقال؟
فى أرض الحقيقة، يسيطر على هضبة الفهم العلماء. يكفى أن تقول إن هذا الأمر علمى لكى يصبح أى أمر تصفه بهذا الشكل حقيقة. ولكن الرعب كل الرعب هو أن تسأل عالما فى مختبر: ما الحقيقة؟.. سوف يصاب بالرعب ويهرب سريعا إلى وهم تعوّد مريح تعود عليه في أجهزته وكواشفه وعيناته وملاحظاته. والحقيقة أن العالم يتكئ على كثير من الوهم: فرضيات ونظريات درسها، لا يعلم أصلها بشكل دقيق يعلو إلى مرتبة الحقيقة. هو يعلم جيدا أن عادته السيئة هى الثقة فى مسلمات، لا غير. وهو يعار من الفيلسوف لأن الفلسفة تبرهن دائما على كل شيء تقوله، فتكون منسجمة فى كل لحظة من وجودها، لهذا ينسى التاريخ العلماء دائما ويتذكر الفلاسفة.
تنويعات
لقد كتب فيثاغورث على باب مقر دروسه: «من لم يكن منكم مهندسًا (أى يفهم الرياضيات) فلا يدخل علينا رجاء»، فخلق بذلك هوة سحيقة سابقة لزمن التخصص، بين أهل التخصص «إيزوتيريون» كما كان يسميهم، وعامة الناس «الإكزوتيريون». ولا أحد يدرى هل فعل شيئا طيبا أم أن هاجسه «المعرفى» قد حرم من الحكمة قطاعا كبيرا من الناس يحبون الحقيقة ولا يجيدون الوصول إليها.
سيأتى بعد ذلك سينيكا الذي كان يتعاطى الحكمة من زاوية خاصة لا تقطع الحبل بينه وبين الجمهور الذى كان على اتصال به، فيثير انتباهنا إلى ضرورة العيش مع التفلسف؛ فهو يقول فى إحدى رسائله على لوسيليوس: «لا تؤجل فرصة الحياة، وفكر فى أن كل يوم نحياه هو بمثابة الحياة برمتها». 
إن الفلسفة مهمومة بطرح أسئلة حول مختلف الحياة والتصورات وكل ما يملأ الحياة من الوقائع، جوهرها، تقاطعاتها، أثرها علينا، وطريقة عملها، وتصوراتنا حولها، سيرورتها وصيرورتنا فى كنفها. 
ثم تأتى «الكتابة» فى مرحلة لاحقة، لتترجم كل هذا بأداة تميل إلى أن تكون مخادعة خائنة؛ أقصد «اللغة» المرتكزة بشكل كبير على فعل الماضى الناقص.
■ لماذا تكون أفعال الماضى ناقصة، أو يكون الماضى ناقصا فيصبغ على الأفعال نقصانه هذا؟
حينما يقول ككيركجارد «ليست الحياة مسألة ينبغى حلها، بل هى واقع لا نملك إلا أن نعيشه»، فهو لا يدخل بابا من أبواب ما يمكن أن نصفه بالحتمية ولكنه يصف جوهرا عميقا ستتمحور حوله الفلسفة الظواهرية، جوهر العرضية والمحايثة. جوهر النقصان الذى فى الأفعال التى تحاول القبض على الماضي. جوهر عبر عنه نيتشه بشكل دقيق وخارق للأعراف الفلسفية، حينما قال: «كل فلسفة هى فى نهاية الأمر سيرة ذاتية لعقل ما».
يغرينا التأمل فى ما كان يقصده رجل واقف فى منتصف الطريق بين «الطريقة الأدبية» و«الطريقة الفلسفية» مثل موريس بلانشو، الذى كتب يقول: «لا يمكننى أن أكتب... فأنا حزين. ما دمت أقول «أنا» فأنا قريب جدا من حزني، أقرب مما يجب لكى أتمكن منه لغويا... فاللغة تحتاج إلى مسافات ضرورية لكى نستحوذ على الأشياء. فيصبح «أنا حزين» هى «إنه حزين» كما تعودت اللغة أن تقول».
لأول وهلة تبدو الصلة بين الظواهرية والفلسفة التحليلية منقطعة، بسبب الفرق الجوهرى بين طريقتى النظر إلى الحياة، إلى مسارات الحقيقة أو المفاهيم التى نبتكرها لنحتال على الحياة لفائدة الفهم، ولكن بعض النماذج تجعلنا نعيد التفكير فى مسلماتنا حول تاريخ الفلسفة.
فى مسيرة الرياضى والفيلسوف المهم «كورت جودل» نصطدم بفكرة يعبر عنها مفادها بأن «الاهتمام بالدقة والصرامة الرياضية لا ينفى الانفتاح على طاقة الحدس والمقاربة الثرية للتجربة الوجدانية»، وهو كلام غير منتظر من صاحب نظريات فى الرياضيات، ولكنه مسار يصبح مفهوما ومعقولا إذا عرفنا أنه قد درس وتتلمذ على هوسرل، وأبدى اهتماما كبيرا بالفلسفة الظواهرية.
الحال نفسها هى حال أحد أعمدة المدرسة التحليلية المهللين للمقاربة الرياضية للعالم؛ بوريس كارناب؛ وكان قد درس عند هوسرل أصلا، بل إنه قد تقدم بمشروع رسالة تحت إشرافه، ولكن الأمر لم يتم.
أما مسار هوسرل نفسه فيجعلنا نتأمل الحدث الظواهرى بعين رياضية غير متوقعة، يفسرها جاك دريدا فى بحثه المبكر حول « هوسرل وأصل الهندسة»، وفى ذلك يقول: «إن الكتابة الأدبية تمنح البعد التاريخى للموضوعات المثالية التى تعتمل فى الرياضيات»... وهى ملاحظة فى غاية الدقة، من منطلق كون هذه الموضوعات الناشدة للكمال تتسم أيضا بالنقص الذى فى فعل الماضي.
سيسير دريدا بعيدا فى إلحاق النقصان بالماضي. الحرب الفلسفية الضروس التى سيشنها على أفعال الماضى المدعية للكمال لن تجد لها مثيلا، بل إنه سينتهى بكسر شوكة الميتافيزيقا التى هى الوجه الآخر للفعل الذى نحن يصدده. فعل لم تصحح نقصانه لا الرياضيات بصرامتها الكبيرة ولا التكرار بقدرته على جعل حيوانات الفكر المتوحشة أليفة طيعة.
مسيرة دريدا تكلل جيدا الفهم الهوسيرلى للعالم، فهم تشتت فى مواقع فلسفية كثيرة كالتى ذكرناها، وكثير منها غفلنا عن ذكره، مسيرة تتميز بكم من النصوص التى تبدو بلا مثيل؛ لأنها تطرح مسائل لم يتم طرحها من قبل؛ التفكيك، الإرجاء، نقد المركزية الغربية، نقد الميتافيزيقيات، إعادة تعريف الميتافيزيقا خارج الدائرة الدينية، وانتهاء بمقولة الشبحية التى اقترحها فى كتابه «أشباح ماركس»، وهو مقترح فلسفي/أدبى قارب به دريدا الميراث الفلسفى الغربى المشبع بالتناقضات المتعايشة فى كنف الواقع نفسه، واقع قشرته متماسكة ولبه هش مرتبك. واقع يعتمد بشكل مرضى على استراتيجية الدوال فى كنف النصوص التى تبدو مرتاحة منسجمة «تامة» فيما هى حبيسة «أفعال الماضى الناقصة».
■ أليس الشبح تجسيدًا لأفعال الماضى الناقصة؟
خلاصة القول
جدير بنا أن نتأمل السؤال الدريدي: متى تتحول كتابة إلى نص أدبي؟
ويمكننا مقابلة هذا السؤال بإجابة كان قد أعرب عنها أولا رالف إيمرسون، الذى يرى بأن الكتابة هى المناسبة الوحيدة التى يتم فيها الالتقاء بين الحميمى والفضاء العمومي؛ أى أن الكتابة - حسب تعبيره- «دخول جماعى إلى الذات الخفية»..
وعبر عنه لاحقا خورخى بورخيس بصورة «الأدب» - بالمعنى الكلاسيكى العام الذى يجعل الأدب هو الكتابة جمعاء- بتصوره له بأنه «كتابٌ كلى شامل مؤلفه الإنسانية جمعاء، وكل مؤلف وكل كتاب فيه ليس شيئا سوى سطر أو فقرة أو صفحة تضاف إليه على أديم الزمن».
■ متى تتحول كتابة إلى نص أدبي؟
سؤال كان للعرب وعى كبير به حينما عرفوا الأدب بأنه «الأخذ من كل علم بطرف». هذا النقصان الذى يحتاج تعديلُ جرحِه وعلاجُه إلى عين تسكن الميثولوجيا: «عين السيبيلا» المسلطة على كل شيء فى كل مكان فى كل لحظة من هذا الوجود.
■ أليست عين السيبيلا هى الصورة المثلى للكتابة؟
ولكن هذه مسألة أخرى..