الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

لماذا لم تكن "كاسندرا"؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى المقال السابق، تحدثت عن «كاسندرا»، اللاجئة الكوسوفية الحسناء، التى جمعنا القدر أثناء حرب، وكانت علاقتنا مصداقًا لشطر بيت المتنبي، فى رثاء جدته: «كان تسليمه عليّ وداعا».
بعد نشر المقال، تلقيت العديد من أسئلة الأصدقاء: «لماذا كسرت قلبها؟ أنّى لك أن تجحد مشاعرها الطيبة؟ كيف طاوعك قلبك على ألاَّ تلتقط إشاراتها فلم تأخذها معك إذ غادرت مخيم اللاجئين إلى حيث تستكملان الحياة معًا؟»، وهكذا ارتأيتُ أن أصل ما كان مقطوعًا، فأسترسل فى سرد الحكاية.
كنت قد وصلت لمخيم لاجئى «كوسوفا»، مبتعثًا من صحيفتى آنذاك «البيان الإماراتية»، لتغطية أخبار معسكر اللاجئين الذى أقامه الراحل الشيخ زايد، على الحدود بين صربيا وألبانيا، وهناك تعرفت على «كاسندرا» بعد وصولى بأربع وعشرين ساعة.
كان المعسكر يضم دارًا لإيواء المسنين، الذين قطعوا مسافة نحو عشرة كيلومترات، من كوسوفا إلى حيث يقع المعسكر فى مدينة ألبانية حدودية تسمى «كوكيس».
دلفت إلى دار العجزة، وكانت على مقربة من خيمة أقمت بها، فإذا بوجه صبوح يستقبلني، وإذا بصوت ذى بحة أنثوية حُلوة: «صحفي»، أجبتُ: نعم.. وكيف عرفتِ؟ قالت: «فى عينيك بريق التساؤلات، لقد مكثت فى المعسكر نحو شهرين، وصرت أعرف الصحفيين من نظراتهم».
جالت عيناى فى المكان، به نحو ثلاثين سريرًا، نزلاؤه فوق السبعين تحقيقًا، باستثناء عجوز تبدو أكبر، وجهها خارطة للتجاعيد الحادة، شعرها بلون القطن، شعثاء، هزيلة للغاية، نظراتها زائغة، تطلق تأوهات عميقة متتابعة، تأوهات أشبه بنعيق الغربان، دون مبالغة.
استرعانى المشهد بحاسة الصحفي، فإذا بالفتاة تحدثني: «لا نعرف اسمها، ويقدر الأطباء عمرها بأكثر من مائة سنة، معتلة البصر، بوسعك أن تقول إنها لا تسمع ولا تبصر تقريبًا، وجدناها نائمة على الرمال بجوار السور الشائك الشرقى للمعسكر، بين الحياة والموت، أما كيف قطعت الحدود رغم وهنها، وهل أقلها أحد أم جاءت وحيدة؟ فهذا سؤال بلا جواب، إن الرحلة من كوسوفا إلى ألبانيا شاقة للغاية، لقد قطعتها بنفسي، على متن جرار زراعي، فى الطريق يحاصرك الموت من كل الجهات: البرد قارس، والتضاريس قاسية، وعصابات الصرب تقتل كل من يقع فى أيديهم، إن بلوغها المعسكر يمثل معجزة بكل المقاييس، هناك شباب فى مقتبل العمر، يموتون أثناء رحلة الهرب من الموت».
لم أرد عليها، فكرت برهة فى أشقائنا الفلسطينيين ممن يعيشون فى مخيمات لبنان، شعرت أن الأرض تميد.
شكرت «كاسندرا»، بعد قدح قهوة قدمته لي، سألتني: «كم سأمكث؟»... جاوبتها: «ليس لدى خطة، متى نفدت نقودى سأرحل»، أطلقت ضحكة مموسقة: «أستطيع أن أجزم بأنك مبذر جدًا»، قلت: «بوسعك أن تُقسمى على ذلك»، قالت: «لدينا اليوم حفل زفاف، هناك لاجئان سيعقدان قرانهما، هل تحب أن تحضر؟»، قلت من فوري: «سيشرفني»... ثم تمتمتُ: «إن إرادة الحياة تنتصر على الصعاب حقًا».
فى نحو السابعة مساءً، كانت «كاسندرا» على باب خيمتي، وقد خلعت معطفها الأبيض، الذى تلبسه أثناء عملها الذى تتبرع به فى المستشفى الميداني، أو دار المسنين، وارتدت سروالًا من الجينز، وبلوفر سماويًا، ولاحظت أن شفتيها المكتنزتين قد تلونتا بحمرة صارخة، وأن شيئًا من الكحل على جفنيها، تجاهلت متعمدًا الأمر، لكنها بادرتني: «أليس مظهرى أجمل بعد الماكياج؟»، قلت: «لا أستطيع الجزم، فى الحقيقة أنا لا أحب مستحضرات التجميل».
لعلها إجابة فظة نوعًا ما، لكنى بالفعل لا أحب مستحضرات التجميل.
مشينا بين الخيام صامتين، حتى بلغنا خيمة تقاطر عليها اللاجئون للاحتفال بالمناسبة السعيدة، العروس فى نحو الثامنة عشرة، والعريس فى بدايات العشرينات، جلست «كاسندرا» إلى جواري، سألتني: كم عمرك؟ ثمانية وعشرون قلت، ردت ضاحكةً: «فى كوسوفا تعد ممن فاتهم قطار الزواج»!.
بدأ الحفل، وطلبت العروس إلى «كاسندرا» أن ترقص، قامت بجسمها الممتلئ نسبيًا، لتؤدى مع أخريات، رقصة تشبه الدبكة نوعًا ما، وكانت ترسل لى على وجه التحديد نظرات خجل أنثوية، وأنا من جانبى أطرق صامتًا.
فى تلك اللحظة، قررت أن أرجع خطوة للخلف، كنت إزاء قرارين، إما أن أجاريها، وهذا استغلال فظ لما بدا لى اهتمامًا نقيًا طيبًا، وإما أن أقيم علاقة متحفظة، فحسب، بما لا يكسر قلبها.
وكان القرار الثانى بالطبع، قرارًا أخلاقيًا، فلست بالذى يتاجر بمشاعر فتاة فى رقة «كاسندرا».
اليوم... أسأل نفسي: «هل أحبتنى كاسندرا فعلًا أم أننى كنت طوق نجاة فى زمن اللجوء؟».
لا أعرف الإجابة، لكنى أعتقد أنى فعلت ما يتسق مع أخلاقي، هذا علاوة على أنني، وإن كنت تعاطفت معها، لم أحبها، ربما لأنى رأيت فى المعسكر، أهوالًا ومآسى وتراجيديا، أكبر من أن تسمح لقصة حب بأن تنمو.
أتذكر «كاسندرا» من حين لآخر، أسأل الله صادقًا، أن تكون سعيدة، أسأله أن تكون قد عادت إلى بيتها، أتمنى أن تكون قد حققت حلمها استئناف دراسة الطب.
عندى لـ«كاسندرا» فى خزانة، صورة بالبالطو الأبيض، أنظرها أحيانًا، فأتأمل ملامحها الحلوة، وأقول لنفسي: «لا أحسب أنها مازالت تذكرني».