الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

بارومترات الروح

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
كثيرا ما استوقفنا السؤال حول عدم وجود كتابات تتمحور حول الذات فى العالم القديم، وفى العالم الذى شهد ميلاد الحضارة الحديثة التى قد يصلح وصفها بالتوسعية من أجل وضع خط واضح بين حضارات قديمة متطورة جدا دون أن تغريها فكرة التوسع والتحول إلى المصطلح الذى مططناه كثيرا فى عصرنا الحديث «الإمبراطورية»، وبين حضارات اكتفت فى تطورها بحدودها فى نزعة إقليمية غير أممية.
فى طرح استفهامى على الطريقة ما بعد الحداثية يمكننا السؤال: هل هنالك علاقة بين الوعى الحديث بالذات وبين العدوان على الآخر؟ عدوان يملك شكلا سياسيا فى جبة الاستعمار وشكلا إيديولوجيا عقيديا فى جبة الإرهاب...
سنطرح السؤال على رجل أت إلينا من المريخ يحمل «بارومترات الروح» لملاحظة مختلف تمظهرات الوعى الإنسانى بالذات على مر الزمن واختلاف الأمم، لكى يجيب بشكل واضح دقيق (رجل المريخ هذا الذى يعده ميشال فوكو «الإثنولوجى النموذجي»؛ لأنه يستطيع تحقيق شرط الخلو التام من الأحكام المسبقة حول موضوعه).
تنويعات
من المثير للاهتمام أن العرب كانوا سباقين إلى كتابة السير الذاتية التى تختصر كثيرا من مسارات الوعى بالذات، ولن أخوض فى الجانب النفسانى لما تستدعيه مقولات الذات والوعى بها، لأن فضاء المقال يضيق بهكذا إضاءات، وسأكتفى بالظلال الفلسفية والثقافية (أو ربما السياسية) لظاهرة تاريخية هى نزوع القدامى صوب النظر الصامت صوب الذات... فقد ظهرت كتابات مثيرة للتأمل ينظر فيها فلاسفة وكتاب عرب ومسلمون صوب أنفسهم، وأثير الانتباه صوب الأطياف الكثيرة لتجلى الذات الواعية بنفسها، الذات التى تعد نفسها مؤسسة تسمح بالفعل الفلسفى والسياسى الذى هو النظر «المستقل» صوب الذات.
بالنسبة لساكن المريخ، سيكون من المثير للانتباه وهو يعاين البشرية بعينه العذراء أن يحاول تفسير الغياب الكبير للنظر صوب الذات فى العالم القديم. وربما تكون طفولة الإنسانية التى تجعل الحياة ميدانا لطغيان القدر على أفعال الناس سببا لذلك. إلا أننا سوف نجبر على التساؤل عن سبب ظهور هذه التأليف عند العرب استثناء...
تحضرنا هنا نصوص معروفة مثل كتاب «الاعتبار» لأسامة بن منقذ، و«المنقذ من الضلال» للإمام الغزالي، وكذلك «التعريف» الذى ألحقه ابن خلدون بكتاب «العبر»، مدونا قرابة المائة صفحة بصيغة المتكلم وواضعا إياها فى آخر المجلد السابع من سفره التاريخى الكبير... وغير بعيد هنا هذه النصوص ما جاء حول السيرة الذاتية لابن سينا، وكان قد أملاها على أبى عبيد الجوزجانى (وارد تفصيله فى كتاب «عيون الأنباء فى طبقات الأطباء»)... هذا الظهور المباغت لصيغة المتكلم فسره أحد أفضل من درسوا المسألة بأنه مرتبط بطبيعة التطور التاريخى للبشرية جمعاء، ففى محاولته للتأطير النظرى لهذه الظاهرة فى كتابه «L’individu، la mort، l’amour. Soi-même et l’autre en Grèce ancienne، Paris، Gallimard، ١٩٨٩....»، يستوقفنا تقسيم الباحث الفرنسى جون بيار فيرنون J-P Vernant لمسارات هذا الوعى الكتابى بالذات فى العالم القديم، وهو يسطر مسارين أو طريقتين للوعى بالذات: الوعى الخارجى بالذات؛ من باب «أنا موجود لأننى أدرك نفسى وأشعر بالألم خارج نفسي...» وهى طريقة أرسطية استمرت تقاليدها لدى المحدثين وعلى رأسهم رينى ديكارت...
ويوجد وعى الذات المنطوية على نفسها، الواعية باختلافها الشديد والواثقة فى كون النظرة الداخلية الصامتة صوب العالم أكثر نجاعة من النظرة الخارجية الصائتة السائدة. ويجعل فيرنون للأمر صورة كاريكاتورية: شخص يخشى من حديث نفسه إليه عادا إياه ضربا من الجنون، وشخص لا يحبذ الحديث إلا حينما يحدث نفسه. من الغريب أن الاستثناء العربى فى هذه المسألة لم يشد انتباه المستشرقين الذين انتبهوا إليه كنصوص دون أن يموقعوه كما ينبغي، فقد ألف المستشرق الشهير فرانتز روزنتال دراسة ثرية بعنوان «التراجم الذاتية للمؤلفين العرب» نشرته مجلة Orientalia أوريانطاليا عام ١٩٣٥ م، وهو بحث أشار إليه وأخذ منه كثيرا الفيلسوف الموسوعى عبدالرحمن بدوى فى كتاب «الموت والعبقرية» المنشور عام ١٩٤٥.
كما أن هنالك مقالا رائجا كتبه المستشرق الألمانى كارل بروكلمان تحت عنوان: «ما صنف علماء العرب فى أحوال أنفسهم»، وقد نشر فى كتاب «المنتقى من دراسات المستشرقين» تحت إشراف الدكتور صلاح الدين المنجد سنة ١٩٥٥. كل هذه النصوص وغيرها مما يتداول فى كتب السيرة الذاتية العربية يظل ناقصا بسبب إصرار المستشرقين على عدم تسجيل استثناء عربى إسلامى والخروج عن القاعدة الغربية القديمة.
ولنا فى هذا المقام تفسير نلقى به إلى عقول الباحثين، يبدأ من سؤال ميشال فوكو: من هو المؤلف أو ما معنى كلمة مؤلف؟... قبل أن يميل إلى طرح السؤال حول اللحظة المهمة لتحول المفهوم الذى نحن بصدده، يقول: «ولن أقدم هنا تحليلا اجتماعيا لشخص المؤلف، إذ من المؤكد أن القيمة كلها فى شرح كيف أصبح المؤلف فى ثقافتنا فردا، وما المكانة التى أعطيت له، وفى أي لحظة بدأت دراسات الأصالة والنسب، وفى أى نوع من أنساق التثبيت انخرط المؤلف، وعند أى نقطة بدأنا تتبّع حياة المؤلفين أكثر من حياة الأبطال، وكيف بدأت هذه المقولة الأساسية «نقد الرجل وعمله»؟ إننى أريد، على كل حال، أن أتناول العلاقة بين النص والمؤلف، والأسلوب الذى يشير به النص إلى هذا «الشخص» الذى هو، فيما يبدو على الأقل، لا منتم إلى عمله وسابق عليه».
زبدة القول
أريد فى هذا السياق الإشارة إلى خصوصية كامنة فى الدين الإسلامى جعلت الذات أكثر انفلاتا مما ربتها عليها الديانة المسيحية، ديانة تحكمها وتؤطرها مؤسسة الإيمان التى يقف عليها رجال الدين، مؤسسة فقهية مهيمنة يطالب الفرد بالانتماء إليها، فى حين أن الإسلام دين خال من سلطة رجال الدين، الشيء الذى يجعل المسلم قائما بشأن الدين بنفسه، والغالب عندنا هو أن هذه الرؤية التى لعبت منابر ثقافية إسلامية كثيرة دورا مركزيا فيها هى التى قد انتقلت إلى أوروبا فى عصر نهضتها الذى جاء فى أعقاب النهضة الإسلامية فى المغرب والأندلس.
سيكتب المحلل الأنثرولوجى المريخى الذى اقترحه ميشال فوكو فى تقريره بأن طبيعة صياغة الفرد فى الإسلام هى التى أدت إلى نشأة الوعى بالذات وتحويل لفظة «أنا» إلى مسار عقلى وإلى تموقع فلسفى واستراتيجية سياسية للمساهمة فى العالم من خلال الحضور فى النص.