السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

حوارات

الروائي أشرف العوضي لـ"البوابة نيوز": لا يصح أن نقول أدب القرية أو أدب السواحل.. ولا يوجد أديب متخصص فهو ليس ترزي

الروائي أشرف العوضي
الروائي أشرف العوضي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
رغم قضائه ما يقرب من نصف عمره خارج مصر؛ فإن الروائي أشرف العوضي، الذي تتنوع كتاباته بين الرواية والقصة القصيرة والدراسات النقدية، لا يزال يحلم دومًا بمدينة المنصورة التي يعتبرها عالمه الخيالي. يعمل بينما شخوصها في ذهنه، يرأس تحرير واحدة من المجلات الثقافية والسياحية الشهيرة بالمنطقة العربية بينما يختطف من أيام العمل المزدحمة ما يجعله يعود ليُفتش في الوجوه عن ذكريات الطفولة وبدايات الشباب؛ يحتفي باختيار باحثة عراقية واحدة من رواياته في فصل رسالتها للدكتوراه كدليل على حياة القرية المصرية، فيؤكد عشق الأيام الأولى.


وصف البعض العوضي، الذي أبدع "الهيش" و"النوبي" و"كنت أرى البحر" وغيرهم بأنه "يمتلك ماكينة سردية متجددة على الدوام، مقاومة للصدأ وعوامل التعرية". ظل مشغولًا بإنسان الريف المصري في جوهره وفوضوية حياته وموته؛ لكنه لا يزال يسعى وسط كل هذا إلى المزيد من الاطلاع والقراءة رغم أن العمل بالصحافة "أخذ كثيرًا من طاقتي الإبداعية" إضافة إلى الغربة التي وصفها بأنها "قاتلة لأي إبداع حقيقي"؛ هكذا افتتح حديثه إلى "البوابة" في واحد من الأماكن المُطلة على ميدان التحرير. كنت ألتقيه بينما يستعد ليحمل حقيبته بعد ساعات للعودة إلى عالم الترحال.
كانت القرية التي نشأ فيها العوضي لا تبعد عن مدينة المنصورة سوى خمس دقائق؛ كان قريبًا منها بينما يحيا يومه كأي ابن قرية قح يعيش مفردات القرية المصرية في حقبتي السبعينيات والثمانينيات. كان، كما يروي، يتنقل ببصره بين أهلها بجلاليبهم البسيطة، والنيل الذي كثيرًا ما يقطع خط البصر بينهما مرور حيوان إلى حقله أو نحو ماكينة الطحين؛ هناك العمدة والخفر، وطقوس الموت وحفلات الزار والموالد، وعادات الزواج وسبوع المولد. كان مثلهم تعلوه تلك الدهشة حين يذهب الى المدينة.
يظن البعض أن "الهيش"، وهي واحدة من أكثر روايات العوضي شهرة وليدة الألفية الجديدة، يُصحح المعلومة "هي روايتي الأولى التي كتبتها عام 1999 وصدرت عام 2001 ثم اعيد طبعها عدة مرات"، الاسم نفسه دالًا على مدى ارتباطه ببيئته الريفية، فالاسم يعني بلغة الفلاح المصري النباتات البرية المتشابكة التي تكون سياجًا على شواطئ النيل، والتي يعيش بداخلها حيوانات برية ضالة وكثير ممن يبحثون عن مأوى وساتر من أعين الغرباء؛ هكذا أحب الروائي الذي اشتهر بتوغله في البيئة الريفية في دلتا مصر الناس البسيطة المليئة بالمحبة، والبيوت المفتوحة؛ ربما تلاشت كل هذه المفردات مع توغل البناء بالطوب الأحمر وانتشار كل ما هو تكنولوجي، لكنها ظلت موجودة مع كل مرة يكتب فيها. كلما عاد إليها يرى القرية التي يعرفها بتلك الدروب القديمة والوجوه السمراء التي تعاني، يرى نفسه مرة أخرى ناظرًا من برج حمام جدته إلى حاضرة الدقهلية بكل أنوارها الجاذبة، وكأنه لم يُغادرها ليتجول في العالم يومًا.
ظل العوضي مع ترحاله يحتفظ داخله بطفل قروي، تنتابه السعادة بحصوله على أشياء صارت بعد سنوات طويلة بسيطة، وأصبحت تعود إلى ذاكرته مع ابتسامة حنين، حذاء جديد من باتا، أو علبة حلويات من أحمد أمين، أو حتى "رغيف عيش فينو وطعمية سخنة" كان بها يظن أن المدينة منحته الكثير؛ لكنه دومًا انتمى إلى عالم الريف الذي كتبه مسكونًا بالغربة والألم، والتي تتكدس في الملامح والأرواح فيرتبط المكان بالروح، لتُصبح القرية هي البطل إلى جانب تلك الذوات المهشمة والمسحوقة.

ليس العوضي أول ولا أكثر من توغل في عالم القرية، سبقه إلى حقولها عبد الحكيم قاسم، وكان أشهرها رائعته "المهدي"، ومحمد البساطي ونذكر من أعماله روايته الشهيرة "جوع"، وكذلك أعمال سعيد الكفراوي القصصية المُتعددة. عند ذكرهم تنبعث من ملامحه سمات التقدير والاحترام، يؤكد على اعتبارهم أساتذته في الكتابة وفض تشابكات القرية المصرية، ويُضيف من قبلهم المبدع خيري شلبي و"يوسف إدريس" الذي وصفه بـ"المعلم الأول"؛ لكن، يقول، إن الفرق بين كتابته وسابقيه هو عامل الزمن والتطور الذي أدى إلى التغيير هائل طرأ على الريف، حيث اكتسبه وعيه في لحظة تغيير فارقة تمثلت في عودة للقادمين دول الخليج العربي وليبيا بأدوات الحداثة المتمثلة آنذاك في أجهزة التسجيل والمراوح والتليفزيونات الملونة "هنا استبدلت القرية ثوبها وصارت البيوت بالطوب الأحمر واختفى جيل الكبار من شيوخ البلد والأعيان لصالح طبقة أخرى أكثر تعلمًا وثراء. هناك كذلك الاختلاف في التجربة.
دومًا يُهاجم أشرف العوضي أكثرية النُقاد، يرى أن الغالبية تتجاهل الأعمال الجادة أو الصاعدة، ربما يعود ذلك إلى أنهم لا يلتفتون سوى للأسماء التجارية أو اللامعة، وآخرون يلهثون وراء لافتة الأكثر مبيعًا، أو كما يقول هو "النقد الآن يعتمد على الشخصنة، بمعنى أنني طالما أعرف هذا الكاتب أو تلك، أو ربما كان هناك صديق من ورائه مصلحة ما فيكتب عنه"، لم يكن يتحدث بانفعال بقدر ما كانت حدته هادئة وهو يقول "هل عرفت منذ زمن ناقد كبير ينزل إلى المكتبة ويشترى رواية لكاتب لا يعرفه ثم يكتب عنه مقالًا محايدًا دون مجاملة ويتسم بالموضوعية. ذلك أمر نادر كالظواهر الكونيةـ هذا إن وجد"؛ بينما هو في الوقت ذاته لا يميل إلى الكثير من أشكال التجريب في الكتابة. يرى أن كل كاتب له تجربته ومدرسته الخاصة وإن تأثر بآخرين "إن لم تشعر في أول عشر سطور بروح الكاتب في العمل فهو بالتأكيد بلا هوية، بينما لو أعطيتني نصًا ليوسف إدريس أو الغيطاني أو غيرهم دون كتابة اسمه فأنت كقارئ مخضرم ستعرفه". أكد أن الكاتب الجيد سيحيا مئات الأعوام بأعماله، وهناك معاصرين ستزول أعمالهم بوفاتهم.

رغم هذا يكره العوضي تصنيف الأدب "لا يصح أن نقول أدب القرية أو أدب السواحل أو غيرها، الكاتب يكتب عما يعرفه ولا يوجد أديب متخصص، فهو ليس ترزي. نجيب محفوظ كتب عن الأماكن التي عاش فيها"، وأضاف "من يكتب عما لا يعرف سيصير أضحوكة. تمامًا كما يظهر الفلاحين أو الصعايدة في المسلسلات التي يكتبها من لم يعش يومًا في الريف أو الصعيد"؛ مؤكدًا أن القرية اليوم مختلفة عن ما كانت عليه قبل عقود؛ مُشددًا على كتابات الأجيال السابقة وتفردها بأن كل قرية لها سماتها الخاصة التي تختلف عن أخرى "فمن الممكن أن تكون هناك قريتان متجاورتان لكنهما مختلفتان في اللهجة والتفاصيل ونمط الحياة، فقرية محمد عبد الحليم عبد الله تختلف عن قرية البساطي أو طه حسين أو غيرهم".
يرى الأديب الغارق في تفاصيل قريته الترجمة دومًا "موضة" أو "مواسم"، حسب قوله، مثلما يفوز واحد من أدباء أمريكا اللاتينية بجائزة مثل نوبل، فيتجه الناشرون نحو ترجمة الأدب اللاتيني "وهكذا ظهر إلى شريحة واسعة من قراء العربية بعد الضجة التي أحدثها ماركيز"؛ بعدها يفوز كاتب آخر من أفريقيا فتجد الترجمة تتجه إلى الأدب الأفريقي "بعدها نجد الموضة الآن تتجه إلى ترجمة الأدب الصيني، بعد الكثير من المنح وبروتوكولات التعاون التي توقعها الصين مع الدول العربية". يؤكد أن هذا ما حدث أيضًا عند فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل "والتي فتحت بابًا للكثير من الأدباء العرب بجواره للترجمة إلى لغات أخرى"؛ لكنه لفت إلى وجود الكثير من العشوائية في آليات الترجمة لدى العرب "فالأمر بالنسبة للمعاصرين يعتمد على الكثير من العلاقات بأكثر من الاعتماد على العمل نفسه، وذلك على حساب الكثير من الأعمال الجيدة التي تستحق الترجمة"، حسب قوله، لأن الترجمة هي واحدة من أذرع القوى الناعمة لدى أي دولة؛ وأوضح كذلك بدء اختفاء الجيل الذهبي من المترجمين "ما أدى إلى ظهور ترجمات تُسيء إلى الأعمال الأصلية.