الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

الأزمة "البريطانية - الروسية" تلقي الضوء على "أدب الجاسوسية"

 صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تثير الأزمة الحالية بين بريطانيا وروسيا جراء محاولة اغتيال ضابط مخابرات روسي منشق تداعيات سياسية بقدر ما تلفت لما يعرف "بأدب الجاسوسية"، والذي قد يجري توظيفه سياسيا في الغرب على وجه الخصوص لخلق صور وانطباعات معينة وخدمة مصالح أطراف بعينها.

وباتت الصحافة ووسائل الإعلام عبر العالم تردد مصطلح "حرب الجواسيس"، على إيقاع الأزمة المتصاعدة بين بريطانيا وروسيا جراء الاتهام البريطاني لموسكو بالتورط في محاولة اغتيال "الجاسوس الروسي المنشق سيرجي سكريبل وابنته يوليا بغاز الأعصاب القاتل" في مدينة "ساليزبيري" ببريطانيا.

وكان سيرجي سكريبل البالغ من العمر 66 عاما، قد وصل إلى بريطانيا عام 2010 في سياق "عملية تبادل جواسيس كانت الولايات المتحدة طرفا فيها"، بعد أن أدين وسجن في روسيا عام 2006 لقيامه بتسريب معلومات لجهاز الاستخبارات الخارجية البريطانية المعروف بالاختصار "إم أي 6".

وبقدر ما أفضت هذه الأزمة التي اندلعت بين بريطانيا وروسيا وانخرطت فيها واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي مصطفة إلى جانب لندن لتحليلات وتعليقات ذات طابع سياسي، فانها تثير الخيال العام بشأن ما يعرف بحرب الجواسيس وقد تحفز الكتاب المتخصصون فيما يعرف "بأدب الجاسوسية"، لكتابة أعمال جديدة سرعان ما تتلقفها السينما لتعرض كأفلام على الشاشة الكبيرة.

ومع أن العديد من المعلقين حتى داخل بريطانيا أشاروا لعدم توافر "أدلة دامغة تعزز الاتهام البريطاني لروسيا بالتورط في محاولة اغتيال الجاسوس سيرجي سكريبل وابنته البالغة من العمر 33 عاما"، فإن كتاب الجاسوسية في الغرب يخدمون مواقف دولهم والرؤى الغربية حيال الصراعات في العالم وان قاموا بذلك بصورة تتميز غالبا بالقوالب الأدبية المشوقة والمبهرة أحيانا.

ومن الدال أن "صفقة تبادل الجواسيس"، التي أفرج بمقتضاها عن سيرجي سكريبل تضمنت إطلاق سراح جاسوسة روسية تدعى آنا تشابمان كانت قد اعتقلت في الولايات المتحدة ووصفتها وسائل الإعلام "بالجاسوسة الأكثر سحرا".

كما أن من الدال في هذا السياق أن رواية "العصفور الأحمر"، التي تحتل في الأسابيع الأخيرة مكانة متقدمة بقوائم أعلى مبيعات الكتب في الولايات المتحدة والغرب، هي رواية تدخل في "أدب الجاسوسية" وبقلم الكاتب وضابط المخابرات الأمريكية السابق جاسون ماثيوس.

وهذه الرواية التي كتبها هذا الضابط الكبير السابق في قسم العمليات السرية بوكالة المخابرات الأمريكية تتناول أجواء الحرب السرية بين الأمريكيين والروس وتتمحور حول جاسوسة روسية تجيد فنون الإغراء والغواية، فيما تحولت لفيلم سينمائي أنتجته هوليوود بالعنوان ذاته ومنحت بطولته للنجمة جينيفر لورانس ليعرض حاليا في دور السينما بشتى أنحاء العالم.

وإذا كان ضابط المخابرات الأمريكية السابق جاسون ماثيوس قد أمسى من اهم كتاب "أدب الجاسوسية" في الغرب فان النقاد يؤكدون وجود فارق أساسي بين الروائي وبين رجل المخابرات.

فالروائي يتابع على الورق انفعالات وعواطف وأعمال أشخاص وهميين ومن صنع الخيال أحيانا أما رجل المخابرات الذي يبني شبكة الجاسوسية، فإنه يتعامل دوما مع أشخاص حقيقيين ويوجه أحاسيسهم وأعمالهم.

فإذا جعل الروائي أبطال قصته يسلكون سلوكا يتنافى مع العقل والحكمة أي سلوكا مخالفا لكيانهم السيكولوجي فإن الناقد الأدبي سرعان ما يضع أصبعه على هذا العيب ويهاجم الروائي الذي خلق موقفا لا يمكن تصديقه أما رجل المخابرات الذي يبني شبكة التجسس، فإنه إذا وضع خطة ما وأدخل فيها ارتباطات متناقضة غير منطقية ولا يمكن تصديقها فان خطته ستنتهي بالفشل وسوف يجد أبطاله الأحياء أنفسهم وراء القضبان كما حدث مع سيرجي سكريبل عندما سجن في روسيا قبل أن يطلق سراحه في "صفقة تبادل الجواسيس".

ولئن تحولت رواية "العصفور الأحمرإلى فيلم ينتصر للولايات المتحدة والغرب عموما في مواجهة روسيا، فلن يكون من المثير للدهشة أن تتحول الأزمة الحالية بشأن ضابط المخابرات الروسي الذي خان بلاده وقدم معلومات سرية للبريطانيين إلى رواية وفيلم سينمائي.

وبصرف النظر عن حقيقة الاتهام البريطاني لموسكو بالتورط في محاولة اغتيال سكريبل وتبادل الجانبين لإجراءات عقابية تتضمن طرد الدبلوماسيين وتهديدات بطرد الإعلاميين فما حدث يبرهن على أننا مازلنا نعيش في عالم غير أمن بقدر ما هو غامض ومحير وفى السنوات الأخيرة توالت عدة وقائع تؤكد على هذه الحقيقة ومن أشهرها في سجل العلاقات البريطانية-الروسية حادث هلاك الجاسوس الروسي السابق ألكسندر ليتيفيننكو بجرعة إشعاعية قاتلة في شهر نوفمبر عام 2006 بلندن.

فهذه القضايا تدخل في قصص الجاسوسية التي أشتهر بها كتاب في الغرب مثل الكاتب البريطاني جون لو كاريه الذي ولد في التاسع عشر من أكتوبر عام 1931 وبرع في أدب الجاسوسية وما زال يكتب في شيخوخته.

وشاد جون لوكاريه عالما روائيا مشوقا مستمدا من قصص التجسس إبان الحرب الباردة وتناول في بعض إبداعاته حروب المخابرات في الشرق الأوسط كما فعل في رواية "الطبالة الصغيرة" الصادرة عام 1983 .

ولئن ابدع جون لوكاريه في ابتكار شخصية "جورج سمايلي"، واضفى عليه طابع "الجاسوس الغربي الجذاب" فمن الذي ينسى شخصية جيمس بوند التي ابتكرها الأديب والصحفي البريطاني ايان فليمنج وعرفت طريقها للشاشة الكبيرة منذ عام 1962 لتحقق أعلى الإيرادات في السينما فيما أدى ستة نجوم هذه الشخصية وهم :شون كونري وجورج لازنبي وروجر مور وتيموثي دالتون وبيرس بروسنان ودانييل كريج.

وايان فليمنج الذي ابتكر شخصية "جيمس بوند" ولد في الثامن والعشرين من مايو عام 1908 بلندن وقضى في الـ12 من أغسطس عام 1964 خدم كضابط في استخبارات البحرية البريطانية إبان الحرب العالمية الثانية فيما بدأت سلسلة روايات جيمس بروايته "كازينو رويال"، ثم "العين الذهبية"، وعمل مؤلفون آخرون على هذه السلسة بعد وفاته لإنتاجها سينمائيا.

وروايات جيمس بوند التي تصنع في نهاية المطاف صورة مبهرة لضابط المخابرات البريطاني والغربي على وجه العموم وتحفل بجميلات السينما الأمريكية مازالت تلهم هوليوود بإنتاج المزيد من الأفلام التي تحمل اسم هذا الجاسوس الغربي الشهير "بالعميل 007"، حتى أن جزءا جديدا من هذه السلسلة الهوليودية من بطولة النجم دانييل كريج وتأليف نيل بورفزو وروبرت ويد سيعرض في شهر نوفمبر من العام القادم.

وفي عام 2016 اختارت لجنة التحكيم في جوائز بوليتزر الأمريكية الشهيرة، وهي من أهم جوائز الصحافة والأدب في العالم رواية "المتعاطف"، التي لا تخلو من "أدب الجاسوسية" للمؤلف فيت ثانه نجوين لتمنحه جائزة الرواية.

والرواية تتناول الحرب الفيتنامية والفترة التالية لنهايتها في منتصف سبعينيات القرن العشرين وبطل رواية "المتعاطف"، هو "جاسوس شيوعي نصف فيتنامي ونصف فرنسي"، ويعيش حياة مزدوجة في لوس أنجلوس أما مؤلف الرواية ذاته فهو ينتمي لعائلة من اللاجئين الفيتناميين في الولايات المتحدة وشب عن الطوق في ولاية كاليفورنيا وكان معجبا دوما بروايات وقصص الجاسوسية.

واذا كانت هذه الجائزة الثقافية الأمريكية، قد منحت لرواية "المتعاطف"، التي تتناول الحرب الفيتنامية كما تستعرض وقائع ما بعد انتهاء هذه الحرب التي تورطت فيها الولايات المتحدة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، بقلم كاتب فيتنامي الأصل فإن الأمريكيين لن ينسوا اسم هوارد هانت الذي جمع ما بين صفة الكاتب وصاحب الكتب المتعددة والعمل السري في المخابرات الأمريكية مثلما فعل صاحب "العصفور الأحمر" جاسون ماثيوس.

وهوارد هانت الذي قضى في الثالث والعشرين من يناير عام 2007 عن عمر يناهز الـ88 عاما بعد مسيرة طويلة في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية "سي آي إيه" أصدر 73 كتابا، كما سجل علامات فارقة في تاريخ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية الشهيرة بالاختصار "سي آي إيه" مثل دوره في تنظيم عملية خليج الخنازير التي استهدفت كوبا في ظل قائدها الثوري فيدل كاسترو وهددت بمواجهة أمريكية-سوفييتية في مطلع الستينات من القرن الماضي.

وهذا الضابط الكبير في المخابرات الأمريكية عرف ككاتب له أسلوبه الأدبي المميز وكان يكتب قصصا قصيرة منذ أن كان شابا في الثالثة والعشرين من عمره وبدأ أسلوبه قريبا من أسلوب الكاتب الكبير أرنست هيمنجواي.

وكتب هوارد هانت مذكراته تحت عنوان "جاسوس أمريكي"، وسجل وقائع أيامه في الكتابة والأدب بنشوة وهو يصف حفاوة النقاد بقصصه وإقدام هوليوود على شراء بعض هذه القصص لتحويلها لأفلام سينمائية وهذا ما حدث مثلا مع قصته "سباق بيمنى"، التي باعت 150 ألف نسخة واشترتها شركة" وارنر براذرز" للإنتاج السينمائي.

وفيما لعب هوارد هانت دورا خطيرا في الإطاحة بنظام حكم الرئيس اليساري جاكوب أربينز في جواتيمالا عام 1954 وشغل منصب رئيس محطة المخابرات المركزية الأمريكية في مونتفيديو عاصمة أرجواي ونشط في أمريكا الجنوبية لمحاربة الفكر اليساري والتصدي للاشتراكيين فان الكاتب الشهير نورمان ميللر استوحى شخصيته في قصة "شبح هارلوت" التي صدرت عام 1991 وتناول فيها بعض أنشطة السي آي أيه.

هذا كله تجلى في أيام الحرب الباردة ومعارك المخابرات الرهيبة بين الغرب والشرق وقد أنتجت القريحة الخصبة لضابط المخابرات والقاص والروائي هوارد هانت العديد من القصص والروايات التي تتحدث عن هذه الحقبة وخاصة في سنوات الستينات عندما استعرت الحرب الباردة غير أن هذه الكتابات كانت من وحى خياله ولا علاقة لها بمهامه الفعلية كضابط كبير في المخابرات الأمريكية وكثير منها صدر بأسماء مستعارة.

ويبدو أننا سنشهد عجبا مع "ظهور نسخ جديدة من حروب باردة في العالم"، كما يحدث الآن في "قضية سكريبل" التي قد تتحول لرواية وفيلم على الشاشة الفضية، إنها "الذاكرة الجديدة القديمة لأدب الجاسوسية كما اقترنت وتقترن بالحروب الباردة والسرية" ولكن السؤال الكبير: "من سينتصر هذه المرة في تلك الحرب الجديدة بالألفية الثالثة؟".