الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

"هوامش التاريخ".. حكايات مصر التي تجاهلها المؤرخون

أزال الكثير من الغبار عن الدفاتر المنسية

كتاب هوامش التاريخ
كتاب هوامش التاريخ ــ من دفاتر مصر المنسية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مصطفى عبيد يحكي اثنتي عشرة حكاية بين الوطنيين والقتلة في تاريخ الشرطة وأصحاب الكيف والمزاج
لا يكتب صفحات التاريخ إلا المنتصرون كما اعتدنا دومًا، كلٌ منهم لا يرى سوى أمجاده، ينقشها على الصفحات كما فعل الفراعنة على جدران المعابد وفى البرديات، بينما يتركون الكثير من الحكايات التى تصنع تاريخًا آخر صنعه العامة الذين يرونهم، وكأنهم فقط غبار الانتصار الذى سرعان ما يسقط على الأرض ويتناثر بين سنابك الخيل التى تقف متأهبة لخوض انتصار آخر.
بين هوامش التاريخ الذى صنعه الحُكّام تتناثر حكايات المحكومين، منهم أولئك الأبطال الذين قضوا دون أن يحظى أحدهم بما يستحق، وكذلك الحقراء ممن ساهموا فى تدمير حقيقى بخبثهم فيما طوتهم صفحات المؤرخين فقط لتلميع الحدث وإظهاره بما يليق بالحاكم المنتصر.
هكذا يُمكن أن ينبش أحدهم تلك الصفحات التى ملأها الغبار وطواها النسيان؛ مع كل صفحة يقرأها تتسع دهشته، يستمر فى نفض الغبار ليرى الحقيقة التى تم حجبها لإبراز نجوم العصور المختلفة دون سواهم.


عبد الرحمن فهمى.. بطل ثورة 1919 «المجهول»
أعد خطة استباقية قبل القبض على سعد زغلول.. وصنع الجهاز السرى للثورة
«وهكذا فإن موقف المجتمع من الشرطة كان مُتذبذبًا، ففى أوقات كان الناس يرون الشرطة وسائل أمن واستقرار وخير، وفى أوقات أخرى كانوا يرونها أداة قمع وقهر، وقد عكست السينما المصرية ذلك التوجه فى أفلام عديدة، فظهرت النماذج الإيجابية فى أفلام مثل «الرجل الثاني» و«النمر والأنثى» و«المشبوه»، بينما ظهرت النماذج السلبية فى أفلام مثل «زوجة رجل مهم» و«تيتو».
يبدأ «عبيد» حكاياته عن تاريخ الشرطة المصرية برواية عن أشهر ضباط ثورة ١٩١٩، والذى أشعل فتيل الثورة حقًا، حيث كان الضابط المحنك عبدالرحمن بك فهمي، هو من أعد خطة استباقية فى حال القبض على الزعيم الراحل سعد زغلول ونفيه، فصنع الجهاز السرى لثورة ١٩١٩ عبر تشكيل خلايا عنقودية منفصلة عن بعضها، وقام بتوزيع الأدوار بين قتل الجنود والضباط والموظفين الإنجليز، وإرهاب الساسة المصريين المتعاونين مع الاحتلال، وكذلك تنظيم المظاهرات والإضرابات فى أنحاء البلاد، وتوزيع المنشورات.
ورغم قيام الاحتلال البريطانى بنفى سعد زغلول ورفاقه فى ٨ مارس ١٩١٩؛ إلا أنه ظل يتبادل التعليمات المشفرة مع فهمى عبر رسائل بالحبر السري، فكان يشترى السلاح والقنابل ويعطيها إلى المجموعات الفدائية، ويرعى أسر المقبوض عليهم؛ وقام بتنفيذ عشرات العمليات دون أن يتم كشفه؛ وحتى عندما تم القبض عليه لم يتم إثبات أى اتهامات ضده، فخرج من السجن كداعم للحركات العُمالية.
يروى «عبيد» النهاية المؤسفة والحزينة لذلك الضابط الوطنى والشجاع عبر ما نقله من «الكتاب الممنوع»، الذى أصدره الكاتب الصحفى مصطفى أمين فى تسعينيات القرن الماضي، وكان عبارة عن سلسلة تحقيقات عن الثورة الأولى فى تاريخ القرن العشرين، حيث لم يُعرف الدور الوطنى الذى قام به فهمى إلا فى حقبة الستينيات، حيث لم يتول أى منصب بعد وصول حزب الوفد إلى الحكم عام ١٩٢٤.

الحلبى.. القاتل الذى اعتبرناه بطلًا
«عبيد»: «من سفلة السفلة.. وأهوج وأحمق»
«يبدو أن ولع المصريين بالخوارق هو السبب، فالأمور الطبيعية غالبًا لا تلفت الانتباه، ومن يطالع القصص الشعبى يُدهش كيف أحب الناس مجرمين ونشالين ومُحتالين وبلطجية وقتلة مستأجرين.
القصص عديدة والأمثلة متنوعة، ونظرات سريعة عبر التاريخ تؤكد الصفة الغريبة لدى المصريين، بأنّهم يُلدون القتلة ويؤسطرونهم».
يفتتح الصحفى الغارق فى أوراق التاريخ حكايات المجرمين بحكاية الاغتيال الأشهر فى نهايات القرن الثامن عشر، وهى اغتيال سليمان الحلبى لثانى قادة الحملة الفرنسية «كليبر»، والذى لقى حتفه على يد «سليمان الحلبي»، الذى اعتبره التاريخ بطلًا قضى على خليفة الأسطورى نابليون بونابرت فى مصر. يستخرج عبيد من حكايات عبد الرحمن الجبرتي، أشهر مؤرخى عصره، ما يدل على أن الرجل الذى عظّمه التاريخ المصرى لم يكن سوى قاتل مأجور انتهى به الحال إلى الخازوق، بعدما اغتال سارى عسكر.
استخرج «عبيد» مما ترك الجبرتى من بين أوراقه ما يثبت خطأ ما أوردته الكتب المدرسية حول بطولة الحلبى فى كتابه «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»، فوصفه بأنه «من سفلة السفلة، أهوج وأحمق، ومتدنس بالخطايا»؛ وذكر حادثة اغتيال القائد الفرنسي، والذى كان يسير مع كبير المهندسين الفرنسيين فى داره بالأزبكية، عندما دخل إليه شاب عربى قاصدًا إليه، وتركه كليبر يقترب مُعتقدًا أنه صاحب حاجة وأن عليه قضاءها.
مد القاتل يده اليسرى كأنه يرغب فى مصافحة سارى عسكر الذى لم يكن يعرف أنه سيقبض على يده ويطعنه بالأخرى بخنجر صغير؛ وبينما سمع الحراس صرخة قائدهم المكتومة كان المهندس الفرنسى الذى حضر الاغتيال يحاول الإمساك بالحلبى الذى طعنه كى يكف عن المحاولة. وسرعان ما هرب الحلبى قافزًا من السور.
أسرع الفرنسيون يفتشون المنازل المجاورة سريعًا، وبالفعل وجدوا الحلبى مُختبئًا فى بستان مجاور خلف حائط منهدم «وجدوه شاميًا فأحضروه، وسألوه عن اسمه وعمره وبلده فوجدوه شاميًا اسمه سليمان، فسألوه عن محل مأواه فأخبرهم أنهم يأوى ويبيت فى الجامع الأزهر، فسألوه عن معارفه وهل أخبر عن أحد بعمله، وكم له فى مصر من الأيام والشهور، وعاقبوه حتى أخبرهم بحقيقة الحال».
ذكر الجبرتى فى أوراقه كذلك أن الحلبى دلل على أربعة قال، إنه أخبرهم باعتزامه قتل سارى عسكر، فقبضوا عليهم وعذبوهم ثم أطلقوا سراح أحدهم بعدما تأكدوا أنه لم يكن يعلم بالأمر؛ أما الباقين فقد أعدموهم بجوار الحلبى على خوازيق، بعدما حرقوا يده اليُمنى التى طعن بها كليبر.

ياسين.. أخطر بلطجى مشى على أرض مصر
امتنع المواطنون عن الخروج من منازلهم ليلًا فى قنا وأسوان خوفًا على حياتهم
«لقد قدّم الفن المصرى الرجل باعتباره وطنيًا عظيمًا يقاتل الاحتلال، بينما يروى لنا اللواء محمد صالح حرب، وزير الحربية وشقيق طلعت حرب، فى مذكراته، القصة الحقيقية للمجرم ياسين الذى قتله بنفسه سنة ١٩٠٥».
وصف الرجل فى مذكراته ياسين بأنه «أعنف شقى وأجرأ مجرم مشى على أرض مصر فى زمنه»، وأضاف «اتخذ الرجل القتل حرفة، فكان يقتل ليلهو ويلعب، ويقتل ليسلب وينهب، ويطرب كل الطرب عندما يسمع اسمه يتردد بين الناس فى خوف وهلع، وكان يقول لأقاربه: لماذا لا أكون مثل أبى زيد الهلالى على الربابة؟».
بلغ ياسين فى إجرامه حد أن امتنع الناس عن الخروج من منازلهم ليلًا فى مديريتى قنا وأسوان، وضاقت وزارة الداخلية ذرعًا به، وأرسلت الكثير من القوات للقضاء عليه، لكنه كان ينجح فى الفرار كل مرة؛ وعند تكليف عمدة قبيلته على بك بالقضاء عليه، وهددته بتجريده من رتبته، روّع ياسين العمدة ومن معه، حتى أنه رفض قتله رغم اقترابه منه، وعندما جاء مفتش الداخلية قال له العمدة: «خذوا رتبكم ونياشينكم إذا شئتم، ولست أقوى من الحكومة حتى تكلفونى بما لا أطيق، وأنا علمت أن الشقى فى جهة كذا فاقبضوا عليه أو اقتلوه».
كانت الصدفة التى التقى فيها اللواء حرب بالشقى ياسين هى اللحظة التى انطوت فيها صفحة واحد من أشهر المجرمين فى تاريخ مصر؛ يحكى وزير الحربية الأسبق فى مذكراته، «كُنا فى الطريق صوب حلفا عندما جاءنى الأونباشى وقال لي: يا أفندم أنا شفت عربيًا نائمًا على بطنه وفى يده البندقية فى المغارة هناك، وأشار إلى مكانها، وقال الدليل المصاحب لنا: واحنا مالنا. وربما أدرك أن ذلك الشقى هو ياسين. لكنى وجدت نفسى مندفعًا لأرى هذا الرجل، وجن جنون الدليل، وحاول أن يثنينى عن ذلك، فأبيت وعدت إلى المغارة، وسمعنا الراقد على بطنه وفى يده بندقيته، وأطلق طلقات سريعة علينا فأدركت أن ذلك الرجل هو الشقى ياسين، وعدت فوق التبة وأخذنا نطلق عليه النار، ثم أحضرت حزمة بوص وربطتها بحبل وأشعلت فيها النار وأدليتها من فوق الكهف، فإذا به يطلق علينا عدة طلقات حتى أصيب عسكرى معي، فأصدرت أوامرى بإطلاق النار عليه، وبالفعل أصابته إحداها فى قلبه». يُكمل حرب حديثه بوصف الكهف الذى كان قد أعّده ياسين مُشتملًا كافة وسائل الحياة والترفيه فى عصره؛ هناك كذلك وجد فى الكهف زوجته الشهيرة بهيّة، التى كانت تصرخ فى المعركة، لكنها عندما عملت بموته ظلّت تزغرد وتردد «بركة لي.. بركة لي»؛ بينما نظم أحد أبناء الصعيد فى أعقاب مقتله بأيام الأغنية التى صارت شهيرة حتى يومنا هذا «يا بهية وخبرينى ع اللى قتل ياسين»، والتى التقطها بعد ذلك بأعوام طويلة الشاعر الكبير الراحل نجيب سرور وكتب عنها مسرحيته الشهيرة.

إبراهيم الغربى.. شيطان الليل
مهنة الدعارة شهدت انتشارًا واسعًا فى مصر منذ القرن التاسع عشر
«وطبقًا لكثير من الرحالة والمستشرقين كانت مدينة القاهرة فى ذلك الوقت تزخر بنساء عديدات احترفن بيع أجسادهن مقابل أموال، وقد تعددت الأوصاف التى أطلقت عليهن، وكان أشهرها «الغوازي» أو «الخواطي».
ورغم اتساع أنشطتهن وأنشطة العاملين معهن من الذكور فى مهنة القوادة، اعتبرهن المجتمع المصرى نماذج مُحتقرة لا تُقبل شهادتها ولا تلقى احترامًا أو اهتمامًا، حتى أن المصريين استعانوا بكلمة فارسية نقلت إليهم عبر العبيد المجلوبين إلى مصر، وهى كلمة «سارموزة» والتى تعنى «حذاء» ليطلقوه على كل امرأة تمتهن تلك المهنة، وفيما بعد تحرَّفت الكلمة».
فى جزئية «القوّادون والغواني» تناول عبيد أشهر حكايات من امتهن تلك المهنة فى تاريخ مصر الحديث؛ ناقلًا عن عدة مصادر، أبرزها ما ذكره عنهن الجبرتى الذى وصف صاحباتها بـ«المجتمع السفلي»، ومقالات عبدالله النديم فى مجلة «الأستاذ»، وكذلك ما كتبه الراحل محمود عوض فى كتابه «أفكار ضد الرصاص»، ليكشف ذلك العالم الذى انخرط فيه الكثير من الفتيات المحررات من العبودية بعد دخول الاحتلال الإنجليزى إلى مصر.

شهدت مهنة البغاء فى مصر منذ القرن التاسع عشر اتساعًا كبيرًا، وتنوعت وتعددت أشكالها، وصارت لصيقة بالطبقة العُليا كإحدى الملذات الأساسية التى يُمكن توفيرها بالمال؛ ونقل النديم فى مجلته الكثير من الحكايات عن «شباب مُتهتك، كانوا يتنافسون فى ارتياد المواخير والحانات وبيوت البغاء المنتشرة خلال عهدى إسماعيل وتوفيق»؛ لكن أبرز الأسماء التى عملت فى هذا المجال على الإطلاق هو القوّاد إبراهيم الغربي، والذى جاء فى الكثير من مذكرات رجالات ذلك الزمان، منهم رُسل باشا حكمدار القاهرة والكاتب الكبير يحيى حقي، وعبدالوهاب بكر، وياسر ثابت؛ بل إن الإذاعة المصرية فى حقبة الستينيات قدّمت عنه مسلسلًا بعنوان «شيطان الليل».
كان الغربى مخنثًا، جاء إلى العاصمة المصرية- التى كانت ألمع عواصم الشرق فى ذلك الزمن- من مدينة كروسكو بأسوان، وكان والده واحدًا من أشهر تجار الرقيق فى الشرق، وكانوا يُلّقبونه بـ«الملك»؛ وقد افتتح بيتًا للبغاء فى بولاق ثم ذاعت شهرته، وتوّسعت أنشطته حتى فتح عدة بيوت أخرى فى شتى أنحاء القاهرة؛ واستطاع توسيع دائرة علاقاته بدرجة كبيرة، وامتدت إلى رجال شرطة وقناصل أجانب، وعملت لديه عشرات النساء؛ وتم القبض عليه عام ١٩١٧ ومنعه من مزاولة العمل حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. امتدت شهرة الغربى عقب استئنافه العمل إلى أوروبا، وصار الأجانب يتندرون بأن من زار مصر ولم يزر بيوت الغربى كأنه لم يزرها من قبل، ونسج العامة الكثير من الحكايات حول قوته وقسوته وأسحاره؛ ومع الوقت صار خطرًا على الدولة المصرية نفسها، بعدما امتد نشاطه ليصل إلى أكثر من خمسين بيتًا يعمل فيها ما يقرب من ألف امرأة، وتكررت الشكاوى من فتيات تعرضن للاختطاف والإجبار على ممارسة الرذيلة على أيدى عصابته.

مغامرات «الصحفي» مع السلطة
الزميل الصحفى والباحث، مصطفى عبيد، واحدًا ممن نفضوا الغبار عن الصفحات المنسية، غاص بين دفاتر وحكايات الماضى فى محاولة لقراءة التاريخ المصرى من جهة المجتمع لا السلطة التى صنعت المعابد وكتبت الصفحات اللامعة.
هناك وجد المنسيون والغرباء، الطيبون والقتلة، الوطنيون والخونة، القوّادون والمنافقون،؛ ليكتشف الحكايات التى لم ترو سوى على ألسنة البعض، وجرى تداولها بصوت خافت لا يُزعج السادة.

فى كتايه «هوامش التاريخ- من دفاتر مصر المنسية»، والصادر مؤخرًا عن دار الرواق للنشر، يحاول «عبيد» الذى تخرج فى كلية الآثار بجامعة القاهرة، أن يطرح ما لم يتم طرحه، يهوى الاشتباك والمشاغبة ومناقشة هوامش أحداث هامة، مُستقرئًا كوامنها وكاشفًا خباياها.
قسّم عبيد كتابه الواقع فى ١٩٤ صفحة من القطع المتوسط إلى اثنتى عشرة حكاية كبيرة، وضع فى كلٍ منها حكايات متعددة حول ذلك العنوان الضخم، فهناك حكايات عن الوطنيين والقتلة فى تاريخ الشرطة المصرية، وهناك المجرمون الذين صار كلٌ منهم أسطورة تُحكى على الربابة فى المقاهى الشعبية، والقوادون والغوانى الذين صاروا علامات فى الأحياء التى عاشوا بها، وأصحاب الكيف والمزاج، وأشهر الجلادين فى تاريخ مصر؛ كذلك تجوّل بين نوادر البخلاء والمذّكرات التى تحمل نصف الحقيقة. رحلة كبيرة خاضها الصحفى الحاصل على جائزة نقابة الصحفيين لثلاث مرات، نتناولها هنا فى عُجالة تسمح بها مساحة الصفحة التى لا تتسع لتلك الحكايات.