الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الإرهاب وتلوث الهوية المصرية (8)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يجدر بنا فى هذا السياق التأكيد على أن وجود التسامح الصوفى والأخلاقيات العملية -التى تميز بها الزهاد الحقيقيون- هو الذى منع انتشار جراثيم العنف والتعصب والانحطاط الأخلاقى فى بنية الأمة المصرية، أعنى فى نظام التربية والتقاليد العامة والأعراف الحاكمة للمجتمع، فلم يصبها العطب بفضل تمسك أنصار التصوف العملى بتلابيب دينهم وعوائدهم الأصيلة، فلم تبدله الثقافة الوهابية التى تبناها جماعة الإخوان والسلفيون، ولم تسقط القيم إلى درجة الانحلال كما هو حال المستغربين من أبناء الباشوات والأرستقراطيين فى المدن.
ولعل أشهر الأدبيات التى جمعت بين حركتى الاستشراق العقدى والسياسى الطاعن فى الإسلام، وحركة التبشير المسيحي، ودور المصلحين فى مجابهاتها، هي: كتاب «دين الإسلام والعلم» وهو تعريب للخطبة التى ألقاها «أرنست رينان» بباريس تلك التى اتهم فيها الإسلام وتعاليمه بما ليس فيه وترجمها المهندس على يوسف؛ وكتاب «الجواب المنيف فى الرد على مدعى التحريف» للشيخ يوسف الدجوي؛ وكتاب «مصر الحديثة» لـلورد كرومر الذى تولى الرد عليه عشرات من الكتاب المسلمين فى صحيفة المؤيد بقيادة الشيخ على يوسف؛ وكتاب «لماذا أنا مسلم» لعبدالمتعال الصعيدى الذى رد فيه على افتراءات «زويمر» وجماعته.
ويخطئ من يعتقد أن ملوثات الهوية المصرية من صنيعة المتعصبين عقديًا فحسب، بل شارك العلمانيون فى ذلك أيضا، ويبدو جنوحهم فى تعصبهم البغيض للحضارة الغربية لاسيما الاتجاهات الإلحادية والجمعيات الماسونية والفلسفات الوضعية والمادية، تلك التى تعتبر الدين من معوقات التقدم والتفكير الحر والعقلانية والعلم والسلام بين الشعوب. والغريب فى هذا المقام أن نجد جل الأحزاب السياسية المصرية تتفق فيما بينها على أمرين: أولهما فصل الدين عن الدولة فى نظام الحكم، وثانيهما عدم صلاحية العقيدة لتكون القاعدة التى يُبنى عليها مفهوم المواطنة أو القومية، وحجتهم فى ذلك أن السياسة الشرعية الإسلامية ليست ثيوقراطية وأن ما يأمر به الشرع يختلف عن أمور السياسة التى أضحت علمًا يسير مع مقتضيات الواقع والمصالح المرسلة. أما مبدأ المواطنة فلا يمكن إقامته على أساس من التعصب الملى وذلك لأن النبى أسس دولته فى يثرب على مبدأ المعايشة أى تعدد الجنسيات والديانات وظل هذا الأمر على مر تاريخ الإسلام، فلا يجوز حرمان المسيحى أو اليهودى من حقوق المواطنة لكونه يعيش فى مجتمع مسلم أو على أرض يعتنق غالبية سكانها الإسلام. وقد دافع عن هذا الرأى الشيخ على يوسف مبينا أن اللغة والعادات والتقاليد والأرض المشتركة ووحدة الانتماء والولاء، هى الأصلح ليتأسس عليها مبدأ المواطنة وكذا مصطلح الأمة والقومية.
وقد رحب الأقباط بهذا التعريف وعبر عن ذلك «أخنوخ فانوس» على صفحات مجلة «مصر» مبينا أن الخلافات السياسية لا تفسد الانتماء والولاء للوطنية أو القومية فى حين أن الصراعات الدينية يمكنها تدمير الوطن نفسه فتقسمه إلى أحزاب وفرق متناحرة لا سلام ولا استقرار بين أعضائه؛ وإذا قام الحكم على أساس دينى أدى ذلك إلى جور واضطهاد للمواطنين المخالفين فى العقيدة وأنقص فى الوقت نفسه من مواطنتهم.
ويضيف لطفى السيد أن وحدة الاعتقاد الدينى ليست كافية لإقامة وحدة التضامن الوطنى وخاصة إذا ضيعت فيها الحقوق وعطلت الحدود وأميتت المعروفات وأحيت المنكرات، والوطنى فى عرف كل أمة هو التابع لحكومتها الداخل فى جنسيتها القانونية، ويقابله الأجنبي.
وحسبنا الإشارة إلى أن هذه الأفكار الليبرالية فى ميدان السياسة لم تكن ضد الدين أو انتصارا للعلمانية الإلحادية، بل كانت ثورة على نظام الخلافة العثمانية الذى استولى على الأقطار العربية بما فيها مصر باسم الوحدة الإسلامية، كما أن جمود بعض الشيوخ ورفضهم للتجديد والتحديث وإصرارهم على غلق باب الاجتهاد هو الذى جعل هذا الفريق يفصل تمامًا بين آراء الفقهاء الدينية والمفهوم الحقيقى للسياسة الشرعية التى تبنى على المصالح المرسلة شريطة ألا تحرم حلالا أو تحلل حراما.
أما الاتجاه العلمانى الإلحادى المناهض للدين فجاء فى ركاب المحافل الماسونية تلك التى دخلت مصر مع الحملة الفرنسية ثم انتشرت فى القرن التاسع عشر وازدهرت فى الربع الأول من القرن العشرين، وقد وجد فى هذه المساجلات حول علمانية السياسة والجامعة الإسلامية والخلافة سبيله إلى النفوذ لبنية الهوية المصرية. وأعتقد أن أصحاب هذا الاتجاه هم أحد المسئولين عن تلوث الهوية المصرية بتغلغله فى بنية العقل الجمعى بداية من مناهضته للتعاليم الدينية فى التربية والتعليم والسياسة ومرورا بالتشكيك فى الكتب المقدسة مسيحية كانت أو إسلامية، وأخيرا بالدعوى للتحرر من كل العادات والتقاليد والقيم التى تُرد إلى الدين. ولعل أول الأفكار التى تبناها هذا الاتجاه هو الاعتراف بوجود الله الخالق المبدع باعتباره معتقدا فرديا يؤمن به الشخص بمقتضى إرادته الحرة وقناعته الوجدانية الروحية. أما ما جاء به الأنبياء من تعاليم وكتب مقدسة وطقوس وأعراف فكل ذلك يمكن إدراجه ضمن الأعمال البشرية أو اجتهادات المصلحين ومن ثم فهى قابلة بجملتها للأخذ والرد والمناقشة والنقد والقبول والرفض، أى أنها ليست حجة على العقل. كما أن الديانات التقليدية سوف تظل مدعاة للشقاق والصراع والعنف بين الأفراد والجماعات وأنها سلاح يستخدمه المستبدون بمساعدة الكهنة لإذلال الشعوب والاستيلاء على ثروات البلاد بمنأى عن الحرية والعدالة والمساواة.
وللحديث بقية