الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

يا تركي.. يا تركي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لنترك سويا شباك الضريح قليلا ونطير سويا لرحلة فى كتب التاريخ، ونقف عند صفحة رائد النهضة الفكرية فى مصر الحديثة، «رفاعة الطهطاوي»، وبعيدا عن كل الكتابات الأرشيفية التى ركن لها البعض، أو طبخة المعلومات الجاهزة التى يستسهلها البعض، ومن مذكرات العالم الجليل نفسه، أسوق إليكم أحد مواقفه التى استوقفت بصرى وشغلت فكري، الشيخ كان من المحظوظين بالسفر إلى فرنسا ضمن بعثة أرسلها الوالى محمد علي، وعلى متن الباخرة لم يخطفه الحنين ويجلس حبيس ذكرياته، كما لم يغره المستقبل فانشغل بالتخطيط للفترة التى سيقضيها فى باريس، إنما شغله أمران، أن يؤرخ تلك الرحلة خطوة بخطوة، وأن يتعلم الفرنسية على متن الباخرة، لكى لا يكون واعيا لكل شىء هناك.. المواقف كثيرة لهذا العالم الجليل فى رحلته ولكن لنبدأ بأحدها وهو حينما ناداه فرنسى وقال له يا تركي.. يا تركي. 
نداء كتبه الطهطاوى فى مذكراته عابرا، لكنه استوقفنى مليا.. أكنا مصبوغين بصبغة الأتراك إلى حد اختفاء هويتنا وسمرة النيل فى جباهنا.. لم يكن رجلا عاديا من أخطأ الرجل فى هيئته بل كان رفاعة.. وكان المنادى رجلا فرنسيا خرج من إحدى الحانات مخمورا فى شوارع باريس.. يقتفى أثر الطهطاوى وينادى عليه يا تركي.. وقف الطهطاوى وجذب الرجل الفرنسى إلى متجر وأجلسه على كرسى وقال لصاحب المتجر.. خذ هذا الرجل وأعطنى بدلا منه حملا من الحبوب.. فقال له صاحب المتجر قولا استوقفنى حتى هذا اليوم لأنه ربما لم يتغير رغم تغير السنين.. قال صاحب المتجر: «نحن لا نتاجر بالنوع الإنسانى كما فى بلادكم». كم هى مؤلمة تلك العبارة وهذه التجارة وموجعة تلك الوصمة.. مات الطهطاوى وترك لى وجع نداء المخمور وشوك حروف عبارة صاحب المتجر.. ولو لم يكن من نتائج الحرية والتخلص من الملكية والتبعية سوى تغيير محلى الوجع لكفاني.. كفانى اسم مصر وعلمها.. كفانى أن من يجلس على كرسى حكمها مصرى ابن نيلها وأرضها.. كفانى أننى استرددت هيئتي.. كل شىء بعد ذلك عكارة تطفو على سطح النيل ستزول.. ويا شيخ رفاعة بعد كل هذه السنين أرسل برسالة عنك إلى المخمور والتاجر: «لم نعد عبيدا نباع ونشترى بل نحن أسياد على أرضنا.. ندافع عن شرفنا بعزة وكرامة.. نتصدى لهجمة أفرهاب التتارية عن العالم أجمع.. يموت منا بطل.. فتنبت الأرض ألفا.. ولو لم تحاربنا الأمم وتتكالب علينا.. لقدمت إلينا لتنهلوا من علمنا وتتعلموا من شيمنا.. وكفى أنه الآن مهما قابلنا من شخص مخمور لتوه ينطق مصريا.. أنا مصرى أكتب التاريخ رغم المحن».