الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تراثنا.. بين الاستبقاء والاستبعاد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
منذ أن عاد رفاعة الطهطاوى من فرنسا عام ١٨٣٢م ووضع كتابه «تَخْلِيصُ الإِبْرِيزِ فىِ تَلْخِيصِ بَارِيز»، انقسم المفكرون المصريون والعرب ما بين مؤيد ومعارض لموقف الطهطاوى المنبهر بالحضارة الغربية، رأى البعض أن الاغتراف من الحضارة الغربية هو اغتراب عن حضارتنا العربية، وطمس لهويتنا الإسلامية. فى حين ذهب البعض الآخر شوطًا أبعد فى تأييد وجهة النظر الداعية إلى ضرورة اقتفاء أثر الغرب، حتى نحقق ما حققه من تقدم وازدهار. 
وهنا برزت إشكالية: ماذا نأخذ من الغرب، وماذا نترك؟ وماذا نأخذ من تراثنا، وماذا نترك؟
قد يبدو الأمر سهلًا ويسيرًا:
نأخذ ما يثرى حياتنا ويدفعنا خطوات إلى الأمام، ونترك ما يعوق حركتنا ويشدنا إلى ماضٍ انقضى. هذه هى النتيجة التى قد ينتهى إليها من يُطْرَح عليه السؤال السابق. ولكن هل يقف الأمر عند هذا الحد؟! لا... بل من هنا نبدأ.
إذا نظرنا إلى العلوم عند العرب، كالكيمياء عند جابر بن حيان، والطب عند ابن سينا وابن النفيس، والبصريات والرياضيات عند الحسن بن الهيثم، نجد أن نظرياتهم العلمية كانت تمثل مرحلة من مراحل التطور العلمى، تجاوزها العلم اليوم، بحيث لم نعد ننظر إليها إلا على أنها نوع من مراحل التاريخ الذى انقضى وانتهى.
إن النظريات العلمية القديمة سواء كانت عربية أو غربية لا يعتد بها اليوم، وإذا كنا اليوم نُخرج النظريات العلمية الغربية القديمة من دائرة العلم، ونُدخلها فى باب تاريخ العلم؛ فإننا نقوم بعمل الشىء نفسه مع نظريات علماء العرب والمسلمين. صحيح أن ما أنجزه العلماء العرب كان خطوة بالغة الأهمية فى مسيرة العلم، أفاد منها الغربيون وبنوا عليها العلم الحديث. ولكن ليس فى وسعنا الآن اجترار العلم العربى والعيش عليه، وإغفال ما أنجزته الحضارة الغربية من علم. 
قضيتنا ليست المفاضلة بين العلم العربى والعلم الغربى، إذ ليس هناك علم عربى وآخر غربى؛ لأن النزعة القومية تتنافى مع الروح العلمية الحقة، فالعلم إرث إنسانى عام. وإنما قضيتنا هى العقل العربى وتفاعله إيجابًا وسلبًا مع ما خلفه لنا الأجداد من فكر، ماذا نأخذ وماذا نترك من هذا الفكر؟ إن تراثنا يموج بتيارات فكرية كثيرة ومتضاربة: تيار ينادى بالحرية كالمعتزلة، وآخر يناهضها كالجهمية والجبرية، فكر مؤسس على العقل وآخر مشبع بالخرافات. نأخذ من هذه التيارات الفكرية كل ما يُعلى من شأن العقل والإنسان، ونترك ما دون ذلك.
ونحن وإن كنا نعيش فى المنطقة العربية فلسنا معزولين عن التراث الإنسانى، وهنا نعاود التساؤل مرة أخرى: ماذا نأخذ من حضارة الغرب، وهى الحضارة السائدة الآن؟ هل كل ما تأتى به الحضارة الغربية يصلح لنا؟
اللافت للنظر - ونحن بصدد الإجابة عن هذا السؤال - أن نجد البعض ينظر إلى الغرب بوصفه خصمًا لنا وعدوًا لدودًا، ويطالب متشنجًا بمقاطعة كل ما يأتينا من الغرب، فى الوقت الذى يستهلك هذا البعض كل ما ينتجه الغرب من سلع، فهو يرتدى حُلة وليس جلبابًا، ويسكن بيوتًا وليس خيامًا، ويركب السيارة وليس الجمل، ويستخدم وسائل اتصال كالمحمول والنت... إلخ، وهى أدوات جاءت ثمرة التقدم العلمى والتقنى الغربى!! فى الوقت الذى يرفل فيه هذا البعض بما أنتجته الحضارة الغربية لا يستنكف مهاجمة الغرب والتنديد به، ويعيش فى الوقت ذاته عالة على الغرب فى كل مناحى حياته!! 
ليس مطروحًا أن نقاطع أو نعادى علم وتكنولوجيا الغرب، بل الأكثر إلحاحًا ألا نستمرئ دور المستهلك، علينا أن نقدم إسهاماتنا الخاصة، ولن يتأتى هذا إلا عن طريق إدراك أهمية المناهج الغربية لما تتحلى به من دقة وإحكام، فلنأخذ من الغرب مناهجه العقلية، ونترك جانبًا قضايا الإنسان الغربى التى عُولجت بهذه المناهج. نستخدم المناهج الغربية استخدامًا يساعدنا على حل مشكلاتنا ويتلاءم مع ظروفنا ويثرى قيمنا. تمامًا كما فعل بعض أدبائنا عندما أخذوا الأشكال والأطُر الفنية الغربية وعالجوا من خلالها قضايا نابعة من صميم بيئتنا، ومنسجمة مع أصالة قيمنا.