الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

المسلم بين الإيمان الحق.. والتأسلم (4)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

وإذا كان المتأسلمون عبر التاريخ، ومنهم الخوارج، يلتوون بالنص ليزعموا تفسيرًا له يحقق هدفهم؛ فإن أمامنا نموذجًا واضحًا بل ومثيرًا للسخرية؛ ولأننا لسنا في مجال السخرية، فإننا نكتفي بأن نصفه بأنه نموذج واضح وفاضح للفارق بين الإسلام الحقيقي، الذي بعث به رسول الله، وبين المتأسلم الذي يستهدف تحقيق مصلحة ما، أو الذي يتمسك به الذين وصفهم القرآن الكريم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
ونقرأ لابن حزم في كتابه “,”الفصل“,”: «وكان أن توجه الصحابي الجليل عبد الله بن خباب، أحد ولاة علي بن أبي طالب في طريق يتحكم فيه الخوارج مصطحبًا معه زوجته، وكانت في أشهر حملها الأخيرة. فلما عرف ابن خباب بوجود الخوارج في طريقه علق مصحفًا في رقبته، فأوقفوه وامتحنوه، وجرى الحوار التالي:
-أحد الخوارج: ما رأيك في أبي بكر؟
-ابن خباب: خيرًا.
-أحد الخوارج: وعمر؟
-ابن خباب: خيرًا.
-أحد الخوارج: وفي عثمان؟
-ابن خباب: خيرًا.
-أحد الخوارج: وما رأيك في علي؟
-ابن خباب: علي بن أبي طالب أعلم مني ومنكم بالقرآن.
فصاحوا فيه قائلين: الذي في عنقك يأمرنا بقتلك. وأخذوه إلى مجرى نهر، وذبحوه، وذبحوا زوجته، وقتلوا الجنين في بطنها؛ فغضب عليّ بن أبي طالب غضبًا شديدًا، وهاجمهم بجيش كان قد أعده لفتح الشام، وأوقع بهم في مكان يدعى النهروان، وهزمهم هزيمة منكرة».
لكن حقيقة التأسلم تتضح لنا عندما نواصل القراءة في كتاب “,”الفصل“,” لابن حزم: «ذلك أنهم، وبعد أن قتلوا عبد الله بن خباب وزوجته، ذهبوا إلى ضيعة صغيرة كانت بجوارهم كان يمتلكها أحد النصارى طالبين أن يبيعهم تمرًا. فقال الرجل وقد رأى بطشهم: “,”خذوه بلا ثمن“,”؛ فرفضوا قائلين: “,”إن الله أوصانا بكم خيرًا“,”، فقال النصراني: “,”عجبًا! أتقتلون ابن خباب وتقولون إنكم تعملون بما أوحي إليكم؟“,”»..
ثم نواصل لنقرأ للمبرد في كتابه “,”الكامل“,” لنكتشف، ومرة أخرى، حقيقة الفارق بين الإسلام والتأسلم، ومدى عدم الأنساق في فكر المتأسلمين، ونقرأ: «أقبل واصل بن عطاء في رفقة له فأحسوا بوجود الخوارج، واستشعر رفقته العطب، فقال واصل: “,”اعتزلوا ودعوني وإياهم“,”، فتصدى له الخوارج سائلين: ما أنت وأصحابك؟ فأجابهم: مشركون مستجيرون. فطلبوا منه الرجوع، فقال لهم واصل ألم تسمعوا بالآية الكريمة: ﴿وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله﴾؟، فأجلسوهم، وأسمعوهم آيات من القرآن الكريم وهم يهزون رءوسهم منصتين. ثم قال الخوارج: والآن انصرفوا. فقال ابن عطاء: ألا تكملون الآية؟ فهي تقول: ﴿فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه﴾؛ فأبلغونا مأمننا. فقال الخوارج: لكم هذا، وساروا بهم في جمعهم حتى بلغوا المأمن“,” [المبرد – الكامل في لغة العرب – الجزء الثاني – ص 325].
وهكذا نرى الفارق في المعاملة، فالصحابي الذي علق المصحف في عنقه قتلوه، والذي قال إنه مشرك أبلغوه مأمنه.
وثمة رواية أخرى، وهي أن جمعًا من أهل الكوفة أتوا إلى الحج وقابلوا عبد الله بن عمر فسألوه: “,”هل يجوز قتل البقلة (حشرة الفراش) في الأشهر الحرم؟ فسألهم: من أي البلاد أنتم؟ قالوا: من الكوفة. فصاح فيهم: “,”لعنكم الله، أتقتلون الحسين وتسألون عن حرمة قتل البقلة؟“,”.
وهكذا انطلق الخوارج -كعادة كل المتأسلمين- من تطرف إلى مزيد من التطرف، وفي كل مرحلة يزدادون تصورًا، بل ويقينًا، أنهم يحسنون صنعًا!!
يقول أبو الحسن الأشعري: «ومن أكثر أمراء الخوارج تطرفًا نافع بن الأزرق، أمير الفرقة المسماة بالأزارقة، وقد أحدث إكفار من لم يهاجر إليه» [أبو الحسن الأشعري – مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين –ص ـ58].
ويقول د. عامر النجار: “,”والأزارقة من غلاة الخوارج وعتاتهم، وقد قالوا بثماني بدع منها: تكفير علي ابن أبي طالب، وتكفير معظم الصحابة، وتكفير القاعدين عن الهجرة إليهم [أي الانضمام إليهم]، وإباحة قتل أطفال المشركين، وهم مخلدون في النار مع آبائهم، وزعموا أن من أقام في دار الكفر فهو كافر لا يسعه إلا الخروج، وقال زعيمهم نافع بن الأزرق: إننا اليوم بمنزلة المهاجرين، ولا يسع أحد من المسلمين التخلف عنا“,” [د. عامر النجار – الخوارج – ص 415].
وإذ نتأمل هذا الذي قال د. النجار إنه بدع نكتشف أن منها ما تلبسه بعض متأسلمي زماننا، مثل شكري مصطفى الذي أوجب الهجرة، وسيد قطب الذي قضى بأن من لم ينضم إلى جماعته ممن يسمون أنفسهم بالمسلمين يحتاجون لإشهار إسلامهم من جديد، فمن نطق بالشهادتين ولم ينقد لها [أي لم يلتزم بها] هو كافر قطعًا.. [راجع سيد قطب: معالم في الطريق].
.. وهكذا نكتشف أن المسلمين يمضون في طريقين: طريق الإسلام الصحيح، يتوارثونه ويلتزمون به، وطريق آخر؛ طريق التأسلم يتوارثونه فيكونون ممن وصفهم القرآن “,”بالأخسرين أعمالاً“,”.
ونواصل..