الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

المسلم بين الإيمان الحق.. والتأسلم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ونأتي إلى تلميذ آخر ممن تتلمذوا - بغير تحفّظ - على أفكار "سيد قطب" التكفيرية. نأتي إلى شكري مصطفى، وكان طالباً في كلية زراعة أسيوط، وتم القبض عليه عام 1965 ضمن الحملات التمشيطية لمن أحاطت بهم شكوك إخوانية في إطار الحملة ضد تنظيم سيد قطب، وسيق الفتى صغير السن إلى أتون سجن طرة، وعاش شكري ست سنوات مع كوادر الجماعة المشحونين بكراهية شديدة لعبد الناصر، ولقسوة السجن والسجانين، وكان الإخوان في طرة وفي الواحات وغيرها من السجون، منقسمون على أنفسهم سياسياً، قسم يرى أن فترة السجن طالت وما من بارقة أمل، ومن ثم لا بأس من تأييد عبد الناصر كمنفذ للخروج من سجن لا نهاية معلومة له، وقسم آخر طالته أفكار سيد قطب التكفيرية

يقول الأستاذ عمر التلمساني - المرشد العام الثالث للجماعة - "عندما كنا في المعتقلات كان عذاب زبانية عبد الناصر على أشدّ صوره ووحشيته، وتصور بعض الذين وقع عليهم التعذيب أن هذا لا يمكن أن يصدر من مسلم في قلبة ذرة من الإيمان، وفي غمار هذا الهول نبتت فكرة التكفير عند بعض الشباب، ورسخت فى أذهانهم وآمنوا بها في اقتناع غريب" [عمر التلمساني – ذكريات لا مذكرات – المرجع السابق – صـ113]، وكان شكري مصطفى من المجموعة الثانية، وكان متحمساً متوتراً ساخطاً يصيح في وجه الإخوان المؤيدين: "من العار على المسلمين أن يمسك بهم كالدجاج دون مقاومة، كنتم تكذبون على أنفسكم وعلى الناس عندما كنتم تقولون: "الموت في سبيل الله أسمى أمانينا"، [أحمد رائف - سراديب الشيطان – صفحات من تاريخ الإخوان (1989) – صـ52]، وظل شكري مصطفى يغلي توتراً، داعياً حتى إلى الجهاد ضد الكفار من السجانين والضباط، "فهم كفرة والواجب قتالهم، والأصل في حياة المسلم هو طلب الشهادة فإن حصل عليها فى أي موقع فهو الفائز، ويجب على المسلمين أن يبحثوا عن الشهادة في سبيل الله ولو بين طرقات العنابر وظلمة الزنازين، وكلما حاول أحد تهدئته صاح بأعلى صوت: "لو حسن تصوركم لعلمتم أن الشهادة هي الباب الصعب إلى العالم الرحب"، [أحمد رائف – البوابة السوداء – صـ582]. 

وتمترس شكري مصطفى في الزنزانة رقم 2 في سجن مزرعة طرة، واتّخذها مقرّاً لمجموعة من الشباب الثائر على كل شىء، على قيادة الإخوان وعلى المؤيدين لعبد الناصر من الإخوان وعلى إدارة السجن من المأمور وحتى السجانة، وأعلن شكري أن جماعته هي الفرقة الناجية وأن من ليس معه هو من الكفار، وكان الغضب يفور به في أرق مستديم يزيده رغبة في الثأر"، [ المرجع السابق – صـ509]. 

وبعد هزيمة يونيو زار حسن طلعت - مدير البوليس السياسي آنذاك - معتقل مزرعة طرة، وبدأ في ملاينة السجناء واعداً إياهم بالإفراج عنهم، وفجأة وقف شكري مصطفى ووجّه إليه كلاماً قاسياً كطلقات من دفع أوتوماتيكي، قائلاً: "أنت كافر، ورئيس جمهوريتك كافر، ولئن أحياني الله وخرجت من المعتقل لأقاتلنكم قتالاً شديداً، ولئن مت فسوف يأتي بعدي من يقضي عليكم ويزيل دولتكم، ولئن هربتم من عقابنا في الدنيا فلن ينجو أحد منكم يوم القيامة"، وتراجع حسن طلعت قائلاً: "لا شك أنكم فئة من المؤمنين المظلومين، وأنتم تقرؤون القرآن وتعرفون أجر الصابر على البلاء، وأنه يكفّر الذنوب"، [المرجع السابق – صـ575]، وخشي الإخوان الراغبون في إنهاء المحنة والخروج من السجن من أن يؤدّي موقف شكري ومجموعته إلى إغلاق باب الأمل في الإفراج، فراحوا يضغطون على هذه المجموعة للتراجع على الأقل عن الجهر بموقفها التكفيري، وهدأ البعض إلا شكري مصطفى، وكان يستخف بخوف الإخوان من التصادم مع السجانة ويهتف بأعلى صوت:

إن التي حرست بأبطال الوغى 

باتت تصانع سفلة الحراس 

أما واحد من أخلص رجاله، وهو عبد الرحمن أبو الخير، فيكتب عنه: "كان الشيخ شكري منبوذاً في معتقل طرة من أكثر الإخوان، لا لدمامة خلقه، فقد خلقه الله فأحسن خلقه، ولا لسوء خلق فهو لم يكن ليثور إلا إذا ثار للحق، وما عاب هذا الأسلوب حينئذ غير عصبية في الطبع حالت بينه وبين الالتقاء مع الآخرين من رجال الحركة الإسلامية، للالتقاء عند بعض النقاط"، [عبد الرحمن أبو الخير – ذكرياتي مع جماعة المسلمين (التكفير والهجرة) – الكويت (1980م – 1400هـ) صـ18]، لكن صراعاته مع الإخوان الرافضين لأفكاره دفعت إدارة السجون إلى ترحيله حيث يواصل دعوته، إذ ينقل من سجن إلى سجن آخر، ويبدو أنها كانت حيلة ماكرة من شكري لكي ينال فرصة مناقشة أكبر عدد من سجناء الإخوان، وفي السجن قرأ شكري مصطفى كثيراً في كتب الفقه واللغة والتفسير، واستمع طويلاً إلى المسجونين الذين كانوا من جماعة سيد قطب وحكم عليهم بالسجن، وبدأ هو في تسجيل أفكاره المتشددة والساخنة في كرّاسات جرى تداولها في السجون المختلفة، وبعد وفاة عبد الناصر أفرج عنه

ونستمع إلى اللواء فؤاد علام: "يوم وفاة عبد الناصر لم يكن قد بقي من سجناء الإخوان سوى 118 شخصاً، ومنهم ثمانون مصنّفون كخطرين جداً، وقد طلب السادات ملفاتهم وأمر بالإفراج عنهم جميعاً في صفقة من طرف واحد، لكنها دراما التاريخ التي جعلت منه يسجّل بيده قرار إعدامه"، [فؤاد علام – المرجع السابق – صـ236]. 

وفور الإفراج يتضح الفارق بين شكري مصطفى وجماعة الإخوان، فبعد الإفراج توجه عمر التلمساني وعدد من كبار الإخوان إلى قصر عابدين، ليسجلوا في سجل التشريفات شكرهم للرئيس"، [نبيل فارس – الإسلام لا يعرف العنف – صـ14]، أما شكري فقد اتّجه إلى أسيوط لينفّذ خطة الانتشار في القلب والأطراف، فقد "رسم خطة لتنفيذ قيام الدولة الإسلامية بعد أن تخرج جيوشه من شعاب اليمن لتطهر العالم من الفساد والكفر، وانتشر تنظيمه في أسيوط والمنيا وعدة محافظات أخرى، وبدأوا التدريب على الأعمال العسكرية في منطقة جبلية بالبر الغربي بالمنيا، ويقول فؤاد علام: "كنا نرصد الخيوط ولكننا كنا بلا غطاء سياسي، وأبلغنا أحد الخفراء السريين أنهم حاولوا قتله أثناء مروره بالمصادفة في هذه المنطقة، ولكنه أفلت منهم، وتقرر القبض عليه وكانت أول قضية لتنظيم التكفير والهجرة"، [فؤاد علام – صـ237]، وكانت الأدلة ضعيفة ولا تعدو ضبط عدد من الأسلحة دون ترخيص، وكانت الأحكام مخفّفة، [راجع ملف القضية 618 لسنة 1972 – أمن دولة عليا المتهم فيها شكري مصطفى وآخرون]. 

وخرج شكري مصطفى مستشعراً ضعف الموقف الأمني، واستفاد شكري من مناخ فرضه السادات مستهدفاً أن يجعله مفعما بالتأسلم، ومن تمويل رسمي لأنشطته هو وغيره من الجماعات الجهادية، "وبدأ التدريب في معسكرات علنية قيل إنها للتدريب الروحي والبدني، وبدأت الجماعات في فرض نمط جديد من التعاملات في الجامعات، حيث فرضت إيقاف المحاضرات في أوقات الصلاة، ومنعت أيه محاولة لإقامة حفلات موسيقية أو أمسيات فنية، ووزعت مذكرات وكتباً دراسية رخيصة، وقدمت مساعدات للمواصلات ووزّعت ملابس ذات صبغة متشدّدة للمنتقبات، وعباءات بأسعار رخيصة، وقدمت فوق ذلك دعماً مالياً للمتحاجين"، [نبيل فارس – صـ18]، واستفاد شكري مصطفى من ذلك كله فنال عضوية كثيرة، ونفوذاً واسعاً، وأموالاً وفيرة، وبدأ التنظيم في نشاطه الجاد وفق أفكار شكري مصطفى التي التمسها من منبع التأسلم المتشدد "سيد قطب"، لكنه أضاف إليها تشدّداً ساذجاً، نبع بالأساس من لجوئه إلى التفسير النصي المطلق للآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة

ونبدأ في مقالاتنا القادمة مطالعة لأفكاره