الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ألوان من الصيام "1-2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يُلاحظ الصوم فى الأديان الكتابية الثلاثة: الموسوية، والمسيحية، والإسلام. وليس فى كُتب العهد القديم نصٌّ على الصيام فى وقت معين غير صيام الكفارة يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من شهر تشرين من السنة العبرية.
وقد استعان العلاَّمة المصرى محمود باشا الفلكى بذلك على تحقيق التاريخ الهجرى بالحساب العلمى الدقيق؛ فإن الروايات اتفقت على أن النبيَّ ﷺ دخل المدينة واليهود فيها صائمون صيام عاشوراء، فظنَّ بعضُ المتأخرين أنه كان اليوم العاشر من المحرم، ولكنه ظنٌّ ينفيه أن الهجرة كانت فى شهر ربيع الأول، وأن دخول المدينة كان يوم اثنين، فلما رجع محمود باشا الفلكى إلى التاريخ العبرى تبين له أن العاشر من شهر تشرين يوافق يوم اثنين، ويقابل العشرين من شهر سبتمبر سنة ٦٢٢ ميلادية، وأنه هو اليوم العاشر من شهر تشرين سنة ٤٣٨٣ عبرية.
أما أيام الصيام الأخرى عند اليهود؛ فقد أضيفت مع الزمن، ولوحظ فيها التكفير والاستغفار فى أيام المحن والشدائد، ومنها يوم هَدم الهيكل الأول وهَدم الهيكل الثانى، وغير ذلك أيام أخرى من أيام الهزيمة أو الحصار.
والصيام عندهم على درجات ثلاث: يوم كامل، ونهار كامل، ونصف نهار.
فيصومون يوم الكفارة، ويوم ذكرى الهيكل من الغروب إلى الغروب، ويصومون أيامًا غير هذين اليومين من مشرق الشمس إلى مغربها، ويصومون كثيرًا من الشروق إلى الظهر، وهو صوم نصف النهار، وكل الصيام عندهم إمساك عن الطعام والشراب.
وقد ورد عن السيد المسيح أنه صام أربعين يومًا فى البرية، ولم يرد عنه أنه أمر بالصوم فى وقت معين، ولكن الكنائس المسيحية تلاحظ الصيام قبل عيد القيامة خاصة. وينقسم الصيام إلى إمساك عن الطعام كله، وإمساك عن ألوان معينة كلحوم الحيوان. ومن الصيام ما يبدأ عند منتصف الليل، ومنه ما يُكتفى فيه بوجبة يومية، ولا حرج من التدخين. ويترك الخيار للصائم التابع للكنائس الغربية فى كثير من الأحوال.
أما الصيام الإسلامى كما هو معلوم، فهو الصيام من الفجر إلى مغرب الشمس فى كل يوم من أيام شهر رمضان.
وهذه الفريضة هى الفريضة المُثلى بين ألوان الصيام الدينية؛ لأنها تَجِيء فى شهرٍ معلوم، فيشمل العالم الإسلامى كله، وتصبح هذه العبادة فيه عبادة فردية وعبادة إنسانية عامة فى وقت واحد، وهى تجيء فى شهرٍ قمرى يختلف موقعه من فصول السنة، فلا تقتصر الرياضة النفسية على موسم دون موسم، ولا تختص بالصيف دون الشتاء، ولا بالشتاء دون الصيف. وما دام المعول فى فريضة الصيام من أساسها أن نُكَوِّنَ قدرةً على ضبط النفس؛ فالأوفق أن تتقرر بموعد محدود، وألا يملك الصائم إرجاءها مع الكسل والتسويف؛ إيثارًا لوقت على وقت أو لحالة على حالة، فمِن ثم يبدو أن صيام شهر رمضان فريضة مثالية بين ألوان الصيام التى أوجبتها الأديان.
ولم تأت فريضة الصيام دفعة واحدة، بل سار الإسلام فيها على سُنَّتِهِ من التدرج والانتقال من طورٍ إلى طور: فكان النبيُّ صلوات الله عليه، فى رواية السيدة عائشة، يصوم اليوم العاشر من المحرم، ويدعو المسلمين إلى صيامه منذ كان بمكة قبل الهجرة، ثم فُرض صيام شهر رمضان فى السنة الثانية للهجرة، ووردت الإشارة إلى الصيام مرتين بمعنى السياحة؛ حيث جاء فى سورة التوبة: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} (التوبة: ١١٢)، وحيث جاء فى سورة التحريم: {عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} (التحريم: ٥)، ورجح القول فى التفاسير أن المقصود بالسياحة فى الآيتين الصيام، وهو معنى جميل يدل على حقيقة الصيام الجوهرية، وأنه سياحة من عالم الجسد إلى عالم الروح، فلا يكون قصاراه الإمساك عن شهوات الجسد ساعات من اليوم، ولا يزال الغالب عليه أنه سُمُوٌّ عن تلك الشهوات كأنه رحلة إلى مكان قصى منه، وانتقال من مجال إلى مجال.