الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

المسلم بين الإيمان الحق.. والتأسلم (3)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ولقد أتى الإسلام على يدي الرسول مؤكدًا حق الاختلاف في الرأي، واحترام هذا الحق. ويروي ابن الجوزي في كتابه «تلبيس أبليس»: «اعترض ذو الخويصرة التميمي على قيام الرسول بتوزيع غنائم غزوة خيبر، وقيل الغنائم التي أرسلها الإمام علي من اليمن حيث نشر الإسلام هناك، فأقدم الرسول على توزيع هذه الغنائم على أفراد معدودين من صناديد العرب وسادتهم، والحديثي العهد بالإسلام؛ وذلك لحكمة رآها رسول الله، فقام إلى الرسول رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناتئ الجبهة، كث اللحية، مشمر الأزرار، محلوق الرأس (إنه النموذج الذي نراه في أيامنا)، هو ذو الخويصرة التميمي، وقال: اتق الله يا رسول الله. فقال الرسول: “,”ويحك، ليس أحق من أن يتقي الله انا“,”، وهنا قام عمر بن الخطاب غاضبًا وقال للرسول: هل أدق عنقه يا رسول الله؟. فنهاه الرسول قائلاً: “,”كلا، لئلا يقول الناس إن محمدًا يقتل أصحابه“,”». وهكذا وضع الرسول حدودًا صارمة للتعامل مع الاختلاف في الرأي.
ويمضي بنا ابن الجوزي فيقول: «إن الرسول أردف قائلاً: “,”سيخرج من أصل هذا الدين قوم يقرأون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة“,”. وفي رواية أخرى: «تحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم، وصوم أحدكم في جنب صوم أحدهم، ولكن لا يجاوز إيمانهم تراقيهم (أى حلوقهم)» [صـ90].
وعندما نشب الخلاف على الخلافة بين عليّ ومعاوية، وكان قيام الخوارج، كانت حكاية يرويها ابن الأثير في «الكامل فى التاريخ»، فيقول: «عندما أوشك جيش معاوية على الانكسار أشار عليه عمرو بن العاص بأن يرفع المصاحف على أسنة الرماح، وأن يأمر الجند بأن يصيحوا: هذا كتاب الله بيننا وبينكم. فإن قبلوا ذلك ارتفع عنا القتال، وإن أبى بعضهم وجدنا في تفرقهم راحة. ويرفض عليّ بن أبي طالب؛ إذ يكتشف الخدعة واضحة، وصاح في جنوده: يا عباد الله، امضوا إلى حقكم وقتال عدوكم؛ فإنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، فأنا أعرف بهم منكم، لقد صحبتهم أطفالاً ورجالاً، فكانوا شر أطفال وشر رجال، والله ما رفعوها إلا مكيدة وخدعة. فقال بعض أصحابه: لا يسعنا أن نُدعى إلى كتاب الله فلا نقبل الدعوة. بل إن سعدًا بن فدك التميمي، وزيدًا بن حصين التميمي، ومعهم مجموعة أخرى، قالوا لعلي: إن الحكم لله. أجب إلى كتاب الله وإلا دفعنا برمتك إليهم وفعلنا بك ما فعلنا بعثمان. وأصروا فوق ذلك على اختيار أبي موسى الأشعري للتحكيم. ولكنهم هم أنفسهم ما لبثوا أن خرجوا ضد «علي»؛ زاعمين أنه أخطأ بقبول التحكيم، قائلين: كنا بالأمس نقاتل عمرًا بن العاص، فإن كان حكمًا عدلاً فلماذا قاتلناه؟ وإن لم يكن عدلاً فلماذا يسوغ تحكيمه؟ وأنتم يا رجال عليّ قبلتم تحكيم الرجال في أمر معاوية وأصحابه، والله تعالى قد أمضى حكمه فيهم: إن يقتلوا أو يرجعوا. وتعزيزًا لرأيهم استخدموا ذات الآية الكريمة: ﴿إن الحكم إلا لله﴾» [الجزء الثالث – ص 171].. فهل نتذكر متأسلمي زماننا الذين وقفوا ضد قرض أجنبي لأنه ربًا، ثم ما أن وصلوا إلى الحكم حتى اقترضوا، واقترضوا، عديداً من المرات..
ونعود إلى عليّ بن أبي طالب وهو يتحدث مع «حرقوص بن زهير البجلي»، المعروف بذي الثدية، فيقول حرقوص متوعدًا: «يا ابن أبي طالب، إننا لا نريد بقتلك إلا وجه الله والدار الآخرة»! واكتفى عليّ بقوله: «بل منكم من قال الله تعالى فيه: ﴿قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً؟ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا﴾»، وصمم على نهجه في احترام الرأي الآخر، وأمر أتباعه بالصلاة على قتلاهم.
ونمضي سريعًا لنلتقي بواحد من أكثر مفكري زماننا فهمًا لحقيقة الفارق بين الإسلام والتأسلم، والفارق بين الدين والرأي في الدين، لنطالع ما كتبه د. محمود حمدي زقزوق: «ومن الأفكار المغلوطة لدى الكثيرين الخلط بين الشريعة والفقه الإسلامي، وقد استقر هذا الفهم في أذهان الكثيرين منذ قرون؛ نتيجة لعصور التخلف التي طرأت على المسلمين بعد تراجع الحضارة الإسلامية. والفرق بين الشريعة والفقه مثل الفرق بين السماء والأرض، وبين ما هو إلهي وما هو بشري، وقد أدى هذا الخلط إلى إضفاء طابع القداسة على آراء الفقهاء، خروجًا على الدين نفسه، وتمسك هؤلاء بإغلاق باب الاجتهاد، ومنع رحمة الله الواسعة في التيسير على العباد» [مقاصد الشريعة الإسلامية وضرورات التجديد. ص 33].
وهو ذات ما أكده الأستاذ الإمام محمد عبده؛ إذ نعى على بعض الفقهاء «أنهم جعلوا كتبهم على علاتها أساس الدين، ولم يخجلوا من قولهم بوجوب العمل بما فيها؛ فانصرفت الأذهان عن القرآن والحديث، وانحصرت في كتب الفقهاء على ما فيها من الاختلال والركاكة» [الإعمال الكاملة – الجزء الثالث – ص 195].
ولكن المثير للدهشة هو أن كثيرًا من هؤلاء المتأسلمين يستخدمون النص، ويتمسكون به، ويزعمون أنه صحيح الإسلام، ثم يعودون إلى استخدام ذات النص على الوجه المعاكس؛ مصممين على أن العكس هو صحيح الإسلام.
كان ذلك مثلاً في مراجعات الجماعات، فقد كان القتل والتكفير تفسيرًا لنص تم، وبذات النص أدانوا ما فعلوا. وكذلك في تصرفات أعضاء جماعة الإخوان في مجلس الشعب إزاء الاقتراض ورفضه على أساس أنه ربًا وحرام، ثم عادوا واستخدموا ذات النص لتبريره عندما أتوا للحكم. وكذلك عندما أيدوا كامب ديفيد، ثم عادوا للالتزام بها.. وهكذا.
وإلى مزيد..