الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

محمود درويش: صلاح جاهين خيط نور في حقل ينبت بالبؤساء

 محمود درويش وصلاح
محمود درويش وصلاح جاهين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كان الشاعر محمود درويش من أبرز من نعوا وفاة صلاح جاهين فى أبريل من العام 1986، كتب حينها مقالة بصياغة أدبية بديعة تحدث فيها عن جاهين بصفته أحد معالم مصر مثله مثل النيل، وأنه خيط ضوء فى حقل ينبت بالبؤساء.

عنون درويش مقاله بــ"شاعر القمر والطين"، وفى تقديمه لصلاح جاهين قال إنه واحد من معالم مصر، يدل عليها وتدل عليه، نايات البعيد وشقاء الأزقة ودفوف الأعياد، سخرية لا تجرح، وقلب يسير على قدمين، صلاح جاهين يجلس على ضفة النيل تمثالا من ضوء، يعجن أسطورته من اليومي، ولا يتوقف عن الضحك إلا لينكسر، يوزع نفسه فى نفوس كثيرة، وينتشر فى كل فن ليعثر على الشعر فى اللاشعر، وأضاف "درويشط: "صلاح جاهين يأكل نفسه وينمو فى كل ظاهرة، ينمو لينفجر، وخيط رفيع من ضوء القمر فى حقل مفتوح، يعج بالقطن والذرة والبؤساء، هو أحد المشاهد التى يُغدقها علينا هذا الغِناء، غناءٌ جديدٌ يحاذى الخبر، كأنه يضع جدول أعمال القلب، غناء كان يأخذنا إلى السفوح ونارِ المعجزة، غناء يحرك الآن فينا حنينيا واضحا إلى ما ابتعد فى الغموض، غناء يتلمس ما كان فينا من قوة العمل وقوة الأمل، غناء يتطلع إلينا لنعود إليه لنمسك بطرف الغناء السابق.

ويقول: "لا أعرف كيف أستعيد ذلك الفصل الضائع من عمر جميل جرَّنا إلى اليقين، ولا أعرف كيف أجد الكلام الجدير باستعادة كلام تحول فينا إلى مصر، ولا أعرف كيف أمشى فى وطن تحول إلى شجن، وكيف أتحمل شجنا تحول إلى وطن ومصر فى مكانها، والنيل فى مصر، ما فينا من مصر هو الذى يشرّق ويغرّب، هو الذى يقترب ويبتعد، هو الذى ينكسر ويلتئم، ومصر فى مكانها وفى تاريخها، وصلاح جاهين هو الذى قال لنا، بطريقة لم يقلها غيره: إن ما فينا من مصر يكفى لنفرح، فهل استطاع النشيد أن يفرح".

وفى الفقرات التالية من مقاله تطرأ درويش إلى علاقته بجاهين وكيف كان أحد الذين شجعوا جيله والشعب على الحلم بالتجربة الناصرية فيقول: "عرفت صلاح جاهين منذ تعرفت على صواب قلبى الأول، منذ يممت مع أبناء جيلى شطر الصعود إلى أعالى الأمل، ولم يكن فى مقدور ولدٍ مثلى أن يُسلم بأنه يتيم الوطن والهوية ما دامت مصر ذلك الزمان تقدم للعرب هوية روُحِهم، وتقود القوافلَ المشتتةَ إلى شمال البوصلة، عبد الناصر يصوغ مشروع الوعد الكبير، عبد الحليم حافظ ينشد للعمل والموج والصعود، أم كلثوم تشهر شوقنا للسلاح، وصلاح جاهين يسيَّس حناجر المغنين، ويؤسس تاريخ الأغنية الجديدة ويحول العملَ إلى ورشة أفراح، لقد انصهر الوطنى فى القومى فى المشروع التراجيدى الكبير الذى انكمشت على ضفافه لغة الاحتكام، هنا وهناك، إلى مرجعية الخرافة، مرجعية السلالات الأولى الرامية إلى الاغتراب والاستلاب، لتُستبدل بمرجعية واحدة هى الوعى بما يتطلبه الحاضر العربى من استنفار ما فينا من مشترك اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصلحة والخطرح كنا نتأهب، لأول مرة، للدخول فى تاريخنا من بوابة الصراع الشامل كنا نحلم بالحضور، لذلك استطاع مطلع النشيد أن يفرح، صاعدون إلى مغامرة الحرية والجمال، صاعدون إلى مدار الشعر، صاعدون إلى ترويض المستحيل.

ويتابع: "صلاح جاهين يسير على الطريق الطويل، ونحن نمشى فى معارك لا تنتهى "يا أهلا بالمعارك" دون أن يُهمُّنا القطافُ السريع بقدر ما تُهمنا نشوةُ المحاولة فى السير، تلك هى لذة الإبداع وتلك هى متعة التضحية، أما حساب الربح والخسارة فلا يدخل فى أقاليم المخاطرة الشعرية: هل نقطف القمر؟ أم يخطفنا القدر؟ ليس هذا التردد سؤال القصيدة، المهم هو أن نلتصق بطريق لا بديل عنه سوى هزيمة الروح، وهشاشة الدفاع".

ويضيف: "إن محاكمة السير على طريق الحرية بمعايير سلامة الوصول إلى المضمون هو المدخل الفكري، شديد الذكاء والحث، للتراجع عن الهدف وعن الطريق معا، تماما كمحاولة الشهيد على اندفاعه واقتحامه، أليس هذا ما حدث فيما بعد؟ أليس هذا ما أشاع لغة الاعتذار عن كل نقطة دم حاولت أن تستدرج القمر؟ ولكن سؤالنا، ذلك السؤال الساطع الأول، مختلف، إن مهمة الطريق هى أن يواصل طريقه دون مقايضة النتيجة بخوف الحساب، وما على الغناء إلا أن يغني: ثوار/ ولآخر مدى ثوار/ مطرح ما نمشى يفتَّح النوار/ ننهض فى كل صباح بحلم جديد/ وطول ما إيد شعب العرب فى الإيد/ الثورة قايمة والكفاح دوار/ ثوار/ نهزك يا تاريخ تنطلق/ نحكم عليك يا مستحيل تنخلق/ نؤمر رحابك يا مدى تمتلئ/ والخطوة منا تسبق المواعيد، ولذلك فرح النشيد".

ويتابع: "هل يطمح الشاعر إلى أكثر من تحول صوته الفردى إلى صوت شعب، وإلى ختم شخصى على مرحلة؟ لقد وقَّعَ صلاح جاهين على قلوبنا وعلى فصل من عمر جيل الوعود الباهرة، ومضى فجأة بعدما تعرض العمر إلى صدمات، ها هو يمضي، يحمل جسده المثقل بالعسل المر وبارتفاع القمر إلى أعلى وأعلى، ولكن هل يمضى وحده، كم نظلم الشعراء لنتماسك! لهذا نقول للصديق الراحل: اذهب وحدك، أما النشيد فهو لنا، لنا نشيدك، فاذهب إلى حيث شئت ما دمنا قد امتلكناك، وأنت صوتنا، وأحد أسمائنا الأولى.

وفى كلمات براقة يقول: "صلاح جاهين الشاعر الذى قال نيابة عنا ما عجزنا عن قوله بالفصحى، هو الشاعر الذى قال لنا ما عجزت عن قوله العامية، الشاعر الذى حل لجمالية الشعر ولفاعليته العقدة الصعبة: وعورة المسافة بين لغة الشعر ولغة الناس وما بينهما من تباين والتحام".

واختتم: "صلاح جاهين، نتطلع الآن إلى غيابه المحمل بما يغيب منا، نتطلع إلى ما يحضر من غياب، فلا ننكسر تماما لأننا نرى قامات الخطى الأولى وهى تهيمن على الظل، ولأن ما تبقى من روح فينا يبحث عما تبقى من قوة النشيد لا لنتذكر فحسب، بل لنصد عنا غزوات الاعتذار الرائجة، لا، لم نخطئ حين انتمينا، بقوة البديهة والوعى معا إلى ما فينا من مصر، ولم نخطئ حين اندفعنا، بدافع الدفاع عن النفس وعن الحلم، وحين استندنا إلى ما فينا من واحد عربي، ولم نخطئ حين وجدنا الطريق فى هتاف اللحم البشرى الجريح "ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة" ولم نخطئ حين أنشدنا من كل القبور المفتوحة: والله زمان يا سلاحى فهل ابتعد النشيد، ليس تماما، يا صلاح جاهين، لقد التوى قليلا ليلتف على صخور وليأخذ مساره الحاسم، القمر ليس قريبا إلى هذا الحد وليس بعيدا إلى هذه الكآبة، وليس محالا إلى درجة تعيدنا إلى البئر المهجور، سلام سلام، ولا سلام، لأن مصر ليست شاشة أمريكية، فمن يعيدنا إلى مصر؟ ومن يعيد مصر إلى ذاتها من خارجها؟ ذاك سؤال أحمق يقوله موظفو الجامعة العربية لتبرير العجز عن عقد قمة حضيض ولتحضر فى غياب، حرب،، حرب، ولا حرب، هل غابت مصر حقا؟ هذا هو سؤال الذين صدقوا النشيد لأنهم صدقوا دمهم، سؤال الناجين من المؤقت الطائفى والإقليمى والقبلى والذاهبين إلى معنى مصر الدائمح فاذهب يا صلاح جاهين إلى حيث شئت، اترك صباحنا بلا ورد ساخن، فينا من نشيدك ما يكفى لنواصل الغناء لمصر العرب، ولعرب مصر، فينا منك ما يزوِّد الذاكرة بمطلع العمر العنيد، اذهب إلى حيث شئت ولا تصدق أن حزيران هو أقسى الشهور، فسنشهد بعدك على سنين أقسى، طالما أن التدهور لم يبلغ قاع تدهوره، وطالما لم يفرغ ملوك الطوائف، بعد، من تكوين طوائفهم، زمن رديء، قالوا، زمن وغد، فودَّعه بلا ندم، واترك لنا ذاكرة البدايات المؤمنة بقدرة النشيد وقدرة سكان النشيد على إعادة صياغة الواقع الجديد، وعلى استبدال شرعية الفصحى الرسمية، فصحى الكاتب الرسمى وفصحى الحاكم بشرعية الشارع والنيل والطين، بفصحى جديدة تعبِّر عن امتلاء الكلام بشرايين الحياة واستغاثة الروح، صلاح جاهين، سنتسلح منك بما نشاء من وعود، سنختار من الأشجار أوفرها خضرة، سنأخذ منك ما يجعلنا أقوى، وما يصل فينا ما انقطع من علاقات الفصول، وسنأخذ منك عبرة التطابق بين الأغنية والمغني، لنشهد على براءة جيل من اختلال الشبه بين الواقع والمرآة، وبين الإرادة والأداة، ولنبقى قريبين حتى التلاشى من جوهر الشعر ومن جوهر مصر، وسنواصل النشيد".