السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

روشتة الإعلام المصري "2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عرضنا فى المقال السابق أدواءَ الإعلامِ المصرى فى المشهدِ العامِ الرَاهن، وفى هذا المقال نحاول أن نَصِفَ دواءَ هذه الأدواء ونقدمُها فى روشتةٍ وافية نابعة من تشخيص حالة هذا الإعلام، ومن خُلاصة رؤيتنا للحال المتردية لهذا الإعلام على مدار السنوات الست الماضية التى انفلت فيها كل شيء: الشارع.. الأمن.. الاقتصاد.. العلاقات الخارجية.. الإرهاب، ولم يكن الإعلام بأحسن حظ من كل هذه المجالات فى درجةِ الانفلات وحجمه.
ولعل أول ما يمكن البدء فيه لعلاج الإعلام، هو أن نُعيد النظر إلى إعلام الدولة على أنه يجب أن يكون قاطرة الإعلام فى الدولة المصرية الجديدة لأكثر من سبب، وهو أننا جربنا الإعلام الخاص الذى يسعى إلى الربح والتسلية والترفيه وحجم المرور إلى المواقع الإخبارية، وبالتالى لا يهمه سوى الربح، كما جربنا إطلاقَ إعلامٍ موازٍ لإعلام الدولة، وهو إعلامٌ لم يحقق المنتظرَ منه رغم ضخامة الصرف عليه، بل من الواضح أن هذا النوع من الإعلام تاه وسط صخب إعلامى ضخم، ولم يقدم شيئًا ذا بال. لذا يجب أن نعودَ إلى الأصول والجذور المتمثلة فى إعلام الدولة، ونبحث عن صيغة وصياغة جديدة لهذا الإعلام لكى نضعه فى صدارة المشهد الإعلامى تارةً أخرى. وأعتقد أنه من العيب أن دُوَيْلَة مثل قطر نجحت فى أن تجعل قناة «الجزيرة» على هذا المستوى من الذيوع والانتشار وتوفر لها الدعم المادى والمعنوى، فى حين أن إعلام الدولة المصرية يعانى الأمريْن، رغم أنه الإعلام الرائد فى المنطقة العربية منذ بداية عقد الستينيات من القرن الماضى.
ومن هنا، يجب إيجاد صيغة جديدة للإعلام المصرى تستلزم تبنى الدولة لهذا الإعلام والقيام بسداد ديونه أو إسقاطها، وإتاحة مزيد من الحرية فى إدارته للهيئة الوطنية للإعلام بعيدًا عن الأوامر والتعليمات التى تُكبل هذا الإعلام. وبعبارةٍ أخرى محاولة فصل الإدارة عن الملكية، بمعنى أن الدولة تمول والهيئة الوطنية للإعلام تتولى الإدارة، على أن يكون الهدف الأول هو المهنية الإعلامية وتقديم إعلامٍ رصين غيرِ مُسفٍ أو متهافتٍ بتقديم منافسةٍ متدنية للإعلام الخاص لا يُجيدها ولن يُفلح فيها.
وقد تكون هذه الصيغة هى أن تتخلى الدولة عن التمويل الكامل لهذا الإعلام، على أن تكون إدارته اقتصادية، وهو ما يستلزم قيام مؤسسات الدولة ووزاراتها ومصالحها والجهات الأخرى بسداد مديونياتها لماسبيرو، والتى تصل إلى قُرابة ملياريْ جنيه، وإعادة هيكلة ماسبيرو بما يسمح بالاستغناء عن بعض القنوات التى لا تحقق ربحًا أو على الأقل لا تغطى نفقاتها، وضغط أعداد العاملين بعدم تعيين إعلاميين جدد وفتح الباب واسعًا للمعاش المبكر بمكافآت مجزية لنهاية الخدمة، والاستغناء عن الذين وجدوا لهم منافذ إعلامية بديلة يعملون فيها.
وقد تكون هذه الصيغة هى تحويل ماسبيرو إلى شركاتٍ للمحطات الإذاعية والتليفزيونية والإنتاج الإعلامى والتوزيع، وطرح أسهم هذه الشركات فى البورصة مع تخصيص جزءٍ منها للعاملين، مع الحفاظ على نمط الملكية كما هو دون تغيير.
الأمر الثانى فى هذه الروشتة هو أنه لا بد من وجود سياسة لإدارة المحتوى، سواء المحتوى المقدم على شاشات القنوات التليفزيونية أو موجات المحطات الإذاعية أو صفحات الصحف أو المواقع الإخبارية أو الصحف الإلكترونية، فالمحتوى يبدو سيئًا ويعانى من قلة التنوع أو ندرته، وعدم تداول المعلومات بشكلٍ جيد، كل هذا يحتم إصدار قانون تداول المعلومات ليتيح مصادر معلومات متعددة أمام الإعلاميين بدلًا من أن تصبح الوسائل الإعلامية المصرية نسخًا من نشرات إخبارية دعائية، لأن هذا أدى بالفعل إلى انصراف الناس عن الإعلام بصيغته الحالية وتحولهم إلى السوشيال ميديا التى تتيح هذا التنوع المفقود ولكن بشكلٍ يفتقر إلى المهنية ولا يخلو من التهويل أو التهوين أو انتشار الشائعات أو الكتائب الإلكترونية التى تستهدف من تدويناتها أجندة معينة.
الأمر الثالث أنه لا بد أن نضع سياسة إعلامية للدولة المصرية يتم التوافق عليها بوجود ممثلين لإعلام الدولة بما يضمه من وسائل إعلامية مختلفة والإعلام الخاص والإعلام الحزبى، وتكون هذه السياسة الإعلامية مُلزمة للجميع، ويكون هدفُها الأول الالتزام بدعم الدولة المصرية فى حربها الضروس ضد الفساد والإرهاب، وتبنى مفهوم الإعلام التنموى الذى يعمل على توعية المواطنين بأهمية المشروعات القومية الكبرى وتنمية الدولة المصرية وإعادة بنائها، وأهمية إصلاح الاقتصاد كخطوة أساسية للانطلاق نحو آفاقٍ أرحب فى مجالات الاستثمار والسياحة وتوفير فرص العمل، علاوة على كبح جماح إعلام الإثارة والتحريض والدجل والشعوذة والتلاعب بالمزاج العام للشعب المصرى وبث الإحباط فى النفوس، وضرورة قيام المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بدوره فى هذا الصدد.
الأمر الرابع هو أن يتم تحجيم هذا الكم الهائل من التسلية والترفيه والإثارة فى الإعلام المصرى، والتى يتم صرف مليارات الجنيهات عليها، وتستهدف إثارة انتباه الجمهور لموضوعات غير مفيدة. نحن نعلم أن الترفيه والتسلية صناعةٌ ضخمة فى العالم الغربى الذى وصل إلى مرحلة التقدم منذ أمدٍ بعيدٍ، ولكننا فى مصر ما زلنا فى مرحلة النمو التى تتطلب تسخير كل الجهود فى بناء الدولة، لا بأس أن يكون لدينا قدر من الترفيه، ولكن يجب أن نستجمع طاقاتنا وجهودنا فى الإعلام والدولة والحكومة والقطاع الخاص والشباب من أجل بناء الدولة؛ فهذه الدولة لن يبنيها سوى شبابها ورجالها الذين يغويهم الإعلام بتمضية معظم ساعات الليل فيما لا يفيد.
الأمر الخامس هو ضرورة تجديد المنصات الإعلامية المصرية، والتى تُطل علينا منها نفس الوجوه طيلة السنوات الأخيرة من حُكم مبارك والسنوات التى تلت ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، وشهدت آراؤها قدرًا كبيرًا من التلون والتحول، لدرجة أن هذه الوجوه لم تعد تجد من يتطلع إلى مشاهدتها، ولا يصدق أى كلمة من أفواهها، بل إن هذه الوجوه أصبحت تنفر الكثيرين من سياسات الحكومة وتعمل على تسريع عَداد المعارضين لسياسة الرئيس، لا لشىء إلا لأنها أصبحت وجوهًا إعلامية مستهلكة آن الأوان لتغييرها والإتيان بإعلاميين على مستوى مهنى محترم بعيدًا عن الصراخ والضجيج وحديث المؤامرة.
إن هذا بعض بنود الروشتة التى أصفُها للإعلام المصرى، قد تكون الروشتة مؤلمة من حيث تكاليفها، إلا أن الدواء رغم مرارة طعمه، ورغم ارتفاع سعره، إلا أنه السبيل الوحيد للشفاء.