الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

"مارتن لوثر".. أسد الإصلاح في أوروبا

القس جاد الله نجيب
القس جاد الله نجيب راعي كنيسة المجتمع العربي ببرايتون
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وصف اللاهوتي الكاثوليكي الكبير، إيف كونغار (Yves-Marie Congar) مارتن لوثر، بأنه الشخصية الفذّه، وأحد العباقرة الدينيين في التاريخ كله. وقد اعتبره على نفس مستوى القديس أوغسطينوس، وتوما الأكويني، وبسكال، بل قد يكون أعظم منهم في جانب من الجوانب. فإنه قد أعاد التفكير في الإيمان المسيحي، وأتى بتلخيص جديد وتفسير جديد له. ويضيف كونغار أن لوثر، كان رجلًا متأصلًا في العصر الوسيط، فنهض به. وكان رجلًا من رجال الكنيسة، عاش اختبارًا روحيًا كاثوليكيًا عميقًا جدًا. 
أما دانيال أوليفييه يقول: "قد ظهر لوثر في زمن العباقرة، ولاسيما "المكتشفون" يوحنا جوتنبرج ( لطباعة)، كرستوفر كولمبس، الرحالة الإيطالي، الذي أكتشف أمريكا، ونيقولاوس كوبرنيكوس، عالم الفلك البولندي الذي أكتشف أن الأرض وكل الكواكب السيارة تدور حول الشمس وحول نفسها. وقد انضم لوثر إلى صفْوة العباقرة بسبب اكتشافه " للإنجيل". فإن رواية قصة لوثر ترجع إلى وقت أن اكتشف الإنجيل والتغيير الجذري الذي أحدثه الإنجيل في فكره، وحياته، وفي الكنيسة التي أراد أن يُصلحها في العالم الأوروبي المسيحي". 
أما الدكتور مراد وهبة، فقد اعتبر أن حركة لوثر هي أهم مقومات العقل الأوروبي، وهي النقلة الفكرية التي حدثت كنتيجة لحركة الإصلاح، فبعد ما كان العقل محكومًا صار العقل حاكمًا. 
إنه من عمالقة التاريخ، وربما كان أهم وأبرز شخصية أوروبية في الألفية الثانية. فقد غيرت أفكاره وأعماله ليس فقط الكنيسة ولكن خريطة العالم. فقد أطلق عليه "هرقل الألماني" 
إذًًا من هو مارتن لوثر" هرقل الألماني"؟ 
ولد المصلح الألماني العظيم مارتن لوثر) Martin Luther، 1483- 1546م) في أيسليبن “Eisleben”، وهي بلدة صغيرة في مقاطعة سكسونيا "Saxony" بألمانيا، من أبوين كاثوليكيين فقيرين. في 10 تشرين الثاني عام 1483 مساء عيد القديس مارتن، فسمي مارتن تكريمًا للقديس الذي ولد يوم عيده. وكان الوسط الذي نشأ فيه لوثر هو وسط حياة الريف الألمانية، ملؤها الكد والجهد والخشونة. وولد في بيت مظلم يخلوا من كل وسائل الراحة والرفاهية والتنعم، وهوالابن الأكبر لسبعة إخوة. 
كان أبوه "هانز" من طبقة الفلاحين، عاش مزارعًا في القرية. وكان رجلًا مستقيمًا مُجِدًا في عمله، صريحًا في كلامه، ثابتًا في آرائه، مولعًا بالقراءة، فساعده ذلك على تنمية قواه العقلية وتطور ذكائه الفطري، وكانت زوجته "مارجريت" إمرأة وديعة تقية تخصص كثيرًا من وقتها للصلاة. ولقد أدرك هانز ومارجريت أهمية التربية البيتية الأولى، فزرعا في نفس أولادهما بذار التقوى وحب الصلاة. إلا أنهما كانا يؤمنان بالعصا كوسيلة سحرية لتقويم الأخلاق. 
ترك هانز القرية بعد ولادة لوثر بستة أشهر إلى مانسفلد "Mansfeld"، حيث اضطر إلى التحول من الزراعة، صناعة المعادن. فكان عامل منجم نحاس لكسب عيشه، بالإضافة إلى قيامه ببعض المشاريع التجارية. اجتهد هانز في تكوين ثروة، كما اجتهد بأن يكون له اسم بين الطبقة الارستقراطية المحلية. واضح أن مكانة "هانز" تحسنت، ونمت ثروته، حيث انه انتخب عضوًا في مجلس المدينة سنة 1491م. 
لقد ذاق لوثر وإخوته طعم الحرمان وعاشوا فيه فترة، بل طبقت عليهم كل أنواع الشدة والقسوة في تهذيبهم. يسجل لوثر عن نفسه قائلًا: "لقد عاقبني أبي عقابًا شديدًا في يوم ما لدرجة إني هربت من أمامه واختفيت، ولم أستطع أن آنس إليه إلا بعد وقت طويل." ثم يقول عن أمه في يوم من الأيام ضربتني أمي بالسياط حتى انفجر الدم من جسمي." وبالرغم من هذه التأديبات والعقوبات القاسية التي تألم بها مارتن لوثر فإنه كان لوثر يدرك إن الهدف من كل هذه التأديبات كان تهذيبه وتعليمه وكانت كلها لخيره. فيقول: "فبالرغم من أن عقاب والدي لي كان قد تعدى الحدود إلا إنهما لم يريدا إلا خيري. ولقد تركت قسوة والديه، انطباعات كثيرة وتأثيرات نفسية عميقة في شخصية مارتن لوثر، بل دفعت به إلى نوع من الإنطوائية. فيعترف مارتن لوثر ويقول: "كان والديّ في غاية القساوة معي، الأمر الذي خلق مني إنسانًا خجولًا، مما دفعني إلى الالتجاء إلى الدير لأصبح راهبًا" 
يذكر الدكتور حنا الخضري، أن مارتن عاش طفولته في جو يسيطر عليه الخوف والاضطراب والقلق بسبب قسوة التربية. أما في مرحلة الدراسة في "ماجدبيرج" قد وجد نفسه في وسط غريب بلا صديق وبلا نقود، وفي محيط يسيطر عليه الخوف بسبب القساوة الشديدة التي اعتاد المدرسون وقتئذ أن يعاملوا بها تلاميذهم. أما في مانسفِلد كان الطلبة يتلقون فيها مزيدًا من العصي وكثيرًا من الوعظ. وجُلد فيها مارتن خمس عشرة مرة في يوم واحد لأنه أخطأ في إعراب اسم. وهناك عامل رابع ساعد على حالة لوثر في صراعة بين الدين والواقع، وهو انتشار وباء الطاعون قد زاد خوفه وقلقه واضطرابه من الموت بل أصبح الخوف وعدم الأمان ألم مزمن لا يفارقه. 
وكذلك أيضًا الأحداث التي مر بها هذا الشاب الرقيق الإحساس رسمت أمام عينيه صورتين لم يستطع الفرار منهما، صورة الله القاضي المخيف المرعب، ثم مصيره بعد الموت. لقد كان لوثر في صراع مستمر لأنه كان يرى الله دائمًا كما لو كان قاضيًا مخيفًا ويسوع المسيح ديانًا للأحياء والأموات. 
عاش لوثر فترة تاريخية معقدة من عمره، علاوة على تربيته، ومخاوفه. من كان يعلم أو حتى يحلم بأن هذا الطفل الصغير المعذّب، الذي تربى في أسرة كادحة، وفقيرة النسب والحسب، سوف يغيّر بحياته وتعاليمه مجرى التاريخ ومصير كثير من دول العالم؟!
مارتن لوثر والتعليم
عرف الطفل مارتن لوثر طريقه إلى المدرسة وهو في سن السبع سنوات، لكي يحصل على أكبر قسط من التعليم حتى يستطيع فيما بعد أن يصبح متعلمًا ومثقفًا ومهذبًا. لذلك الحقه والديه بالمدرسة اللآتينية في مدرسة المدينة التي كانت تقطن فيها العائلة، وهي مانسفِلد Mansfeld))، لأن اللغة الألمانية كانت لغة العامة، وهم الذين لم يتلقوا تربية جيدة، وكانت المدارس تعاقب من كان يتكلم الألمانية. ودَرَس مارتن في تلك المدرسة، قواعد اللغة اللآتينية، الوصايا العشرة، قوانين الإيمان، الصلاة الربانية وبعض الترانيم والخطابة والمنطق والتاريخ وبعض العلوم الأخرى. 
أما في سن الرابع عشر من عمره، أرسله والده إلى مجدبورج Magdeburg))، ليلتحق بمدرسة الفرنسيسكان، المدرسة التي اشتهرت بكفاءة معلميها وتقوى الذي يقومون بإدارتها. ولسوء الطالع لم يمكث فيها إلا عدة شهور، لأنه أصيب بمرض أضطره للعودة إلى مانسفلد. 
ورغم قصر مدة وجوده بالمدرسة، إلا أن منهج التعليم ووسائله تركت تأثيرًا عميقًا جدًا على حياته ومستقبله. ويذكر الدكتور حنا الخضري في كتابه " المصلح مارتن لوثر حياته وتعاليمه" عدة أمور شكلت حياته وهي:
 روح التقشف والزهد والاتضاع والإماتات التي زرعها القديس فرنسيس الأسيزي في تلاميذه فاتصف بها التلاميذ وعاشوها.
 تأثرت حياة لوثر وتفكيره بتعاليم المدرسة عن حياة الرهبنة. وقد انتشرت فكرة أن الرهبنة وسيلة من الوسائل الأكيدة للحياة الأبدية والهروب من غضب الله.
 تاثر لوثر جدًا براهب كان في الأصل أميرًا، يمشي حافي القدمين في الشوارع يتسول. ولقد ظهرت عظامه تحت ثيابه لكثرة ما كان يعاني من الأعمال البدنية المتعبة وإذلال جسده وقهره. ويقال أن هذا الأمير كان يمارس هذه الأعمال التقوية وتعذيب جسده بهذه الطريقة لكي يكفر عن ذنوب أبيه السالفة ولكي يحصل هو نفسه على الحياة الأبدية. 
 رؤيتة لأول مرة، نسخة كاملة من الكتاب المقدس، وعندما فتحه عن طريق الصدفة، وجد قصة الصبي صموئيل، فالتهمها التهاما ومنذ هذه اللحظة وهو يتوق شوقًا لاقتناء هذا الكتاب العجيب. 
 رأى لوثر صورة مرسومة لسفينة، ترمز إلى الكنيسة. القطبان هو الروح القدس، والركاب كانوا البابا والكرادلة والأساقفة، والبحارة كانو الكهنة والرهبان. لكن الناس العاديين، المفروض انهم شعب الكنيسة، كانوا كلهم في الماء يصارعون الموج ليجدوا ملاذهم في التعلق على جوانب السفينة. 
تماثل مارتن لوثر الشفاء بعد رجوعه إلى مانسفِلد بعدة أسابيع، وكان عليه أن يتابع دراسته الثانوية، فالتحق بمدرسة الفرنسيسكان بمدينة أيزيناخ (Eisenach)، ليواصل تعليمه التقوي الكاثوليكي التقليدي، 
وحيث كان يقيم أقارب والدته. ولكن أقرباءه لم يخففوا عنه قسوة الحياة. فكان يدور من بيت إلى بيت منشدًا ومرتلًا من أجل الحصول على قوته اليومي. وأخذت الهواجس تنتابه من جهة المستقبل. فهل يترك العلم ويرجع إلى مانسفلد ويعمل في المناجم طوال حياته؟ هذا السؤال وغيره كان يرافقه كشبح مزعج. إلا أن الانفراجة جاءت من عند الله، ففي تلك المدينة تعرّف لوثر على عائلة كريمة النفس نبيلة الأخلاق، وهي عائلة كونز كوتا وزوجته أورسولا (Kunz Cotta Et Vrsdle)واتخذوه كابن لهما بالتبني. ويوصف الخضري، بأن السنوات التي قضاها مارتن تحت سقف هذا المنزل سنوات مشرقة شعر فيها بالسرور والارتياح والسعادة النفسية. كانت العائلة غنية ومثقفة وكان البيت مفتوحًا، فكم من المواضيع اللآهوتية والدينية والتقوية التاريخية نوقشت أثناء تناول الطعام... وكم كان مارتن لوثر يصغي إلى تلك المناقشات التي دارت بين رب وربة البيت والآباء الفرنسيسكان وغيرهم، فقد كانت هذه الفترة مشرقة في حياته. فاستيقظت فيه آمال جديدة لحياة جديدة. فأخذ يواصل دراسته في الأدب والعلوم وأضاف عليها درسه لفن الموسيقى. وقد جعلته مواهبه النادرة التلميذ المحبوب في السنوات الأربع التي أمضاها في مدرسة الفرنسيسكان. 
ورغبة في إرضاء السيدة أورسلا التي تبنته أخذ يتمرن في ساعات فراغه على العزف على المزمار والقيثاره، فكانت الموسيقى، التي كان مولعًا بها، مسلية له ومشجعة عندما تتوالى عليه الضيقات والشدائد. وقد ألف وترجم عددًا من الترانيم ووضع ألحانًا لبعضها كالترنيمة الشهيرة المستمدة معانيها من المزامير:
الله ملجأ لنا وقوة على الدوام
عون شديد ثابت في الضيق حصن وسلام
نهتف بانتصار في وسط الأخطار
إلهنا عظيم ملجأنا القديم 
ينصرنا على الدوام
بلاشك، تلقى لوثر في طفولته، وفي مرحلة الثانوية العامة تعليمًا جيدًا، وخبرات حياتية وإيمانية غنية، شكلت شخصيته بقوة.
لوثر والجامعة 
أنهى مارتن دراسته الثانوية في مدرسة القديس جورج بمدينة إيزيناخ، وهو في الثامنة عشر من عمره. في عام 1501م أُرسل لوثر، إلى جامعة إرفورت Erfurt وهي إحدى أبرز الجامعات الألمانية. فقد كان والده ناجحًا في حياته المهنية، حيث استطاع أن يدفع مصروفات الجامعة والكتب له. كانت رغبة الأب أن يجعل ابنه أديبًا وعالمًا، وقد رأى في شخصية لوثررجل قانون أو كاتب عدل أو محاميًا، أو لِما لا يكون مستشار كونتات مانسفِلد؟! 
كان منهاج الجامعة يحتوي على دراسات للقواعد والمنطق والفلك والهندسة وعلوم ما وراء الطبيعة والموسيقى والفلسفة. فدرس لوثر أرسطوطاليس وتوما الأكويني، ولآهوت العصر الوسيط لوليم أوكهام، وهو فيلسوف وعالمُ لآهوت إنجليزي. كان أكثر المفكرين السكولاستيين((Scholastics تأثيرًا في القرن الرابع عشر الميلادي. وصاحب مدرسة اللآهوت الإسمي (Nominalist)، الّتي قللّت من دور العقل في الوصول إلى الحقائق اللآهوتيّة وشدّدت على دور الإرادة الحرّة في خلاص الإنسان. وقد أدَّت مواقفه تجاه المعرفة والمنطق والاستقصاء العلمي دورًا رئيسيًا في الانتقال من فكر القرون الوسطى إلى الفكر الحديث. وهو أيضًا صاحب فلسفة أن الإحساس هو المصدر الوحيد للمعرفة، وإن الإدراكات المجردة لا وجود لها، وأن الفهم الديني يجب الحصول عليه عن طريق الإلهام قبل المنطق.
كما أن مارتن قد درس الفلسفة على يد أستاذ بارز الشخصية، وهو العلامة بودوكوس الذي لقب بعلامة أيزيناخ، وأيضًا درس على يد عدد كبير من أساتذة هذه الجامعة الذين اُعتبروا من صفوة الأساتذة، أمثال يوحنا جرفينستاين (Jean Grevenstein) ثم على يد (Gerard Hecker) وجرار هكر الذي صار فيما بعد راهبا في دير القديس اغسطينوس وهو نفس الدير الذي اختاره مارتن فيما بعد، وهو واحد من الذين قبلوا الإصلاح في آخر حياته. 
أنهى لوثر دراسته الثانوية بتفوق عظيم، وكان أصغر طالب قد حصل على درجة "ليسانس" في الآداب 1502م. قبلته الجامعة في احتفال رسمي عظيم مشرف لدراسة الحقوق إذ كان ترتيبه الثاني على سبعة عشر طالبًا وقد كُلف بالتدريس أثناء دراسته للحقوق. وكان يدرّس قواعد اللغة والمنطق، وفي نفس الوقت استمر في التحضير لدرجة الماجستير التي حصل عليها في عام 1505م. ويبدوا أنه التحق بكلية الحقوق، تحقيقًا لرغبة والده، مع أن ضميره لم يكن مستريحًا لهذا القرار. 
رغم كل ما وصل إليه لوثر من درجات علمية، إلا أنه لم يكن متأكدًا من رغبته الحقيقية في المستقبل. ففي الجامعة انتابه نوع من الارتباك أمام قوة النهضة وازدهار الحركة الإنسانية المتنامية. وكان مضطربًا وبحاجة أن يجد الأمن والاطمئنان على حياته. لأن كانت التربية القاسية والخبرات الحياتية في البيت وفي المدرسة والجامعة، التي جذّرت فيه الإحساس بالذنب باستمرار والخوف من عقاب الله، الأمرالذي كان ينغص عليه عيشته. وكان يعتقد إنه هالك لا محالة، وأن روحه لن تنجو من عذاب النار مهما حاول، ومهما فعل. ويقول مارتن إن أباه ثابر على ضربه يومًا حتى إنهما ظلا زمنًا طويلًا يناصب كل منهما الآخر العداء، وفي مناسبة أخرى جلدته أمه حتى سال دمه لأنه سرق جوزة. وقال مارتن مفكرًا فيما بعد: "إن الحياة الخشنة القاسية التي عشتها معهما هي التي دفعتني إلى أن ألجأ فيما بعد إلى الدير وأصبح راهبًا".
وليس من شك في أن صورة الله التي نقلها له والداه عكست مزاجهما الخاص. أب قاسٍ وقاضٍ صارم ويطلب استرضاءه. علاوة على أن والداه كانا يؤمنان بوجود سحرة وعفاريت من فصائل متعددة وتخصصات متنوعة، وقد حمل مارتن معه معظم هذه الخرافات. وهكذا أسهم الفكر الديني الذي قام على الفزع في بيت يحتفل بالتأديب الصارم، في تكوين شباب لوثر وعقيدته الدينية.
لوثر وتغيير الإتجاه
تعرف لوثر على الكتاب المقدس لأول مرة في مدرسة مجدبورج كما ذكرنا عاليه، استمر في دراسة كلمة الله دون أن يهمل دراساته العلمية والفلسفية، فقد كان مارتن لوثر طالبًا ناجحًا مجتهدا في دراساته، عميقًا في تفكيره وأبحاثه. ولذلك فقد سماه أصدقاؤه بمارتن الفيلسوف. كان مشدودًا إلى الدين بقوة غريبة وعجيبة وبميول داخلية عميقة، وعاونت الأحداث في تعزيز هذا الميل في داخله. 
كما إنه كان في الوقت نفسه يخاف كل الخوف ويرتعب كما من الموت. إنه لم يستطع أن يقترب من الله العادل القدوس الذي يبالغ في طلب القداسة والبر من الإنسان الخاطئ. لم يستطع أن يقترب من السيد المسيح، القدوس الذي صورته الكنيسة كقاضٍ عادل جالس على عرش مرتفع عظيم وقد قبض بيديه على ميزان دقيق لكي يزن أعمال الناس من خير ومن شر لأنه هو الذي يدين وسيدين الأحياء والأموات. 
زادت تساؤلاته عن الموت، وكان فكرة الموت تطارده أينما حل وسيطر على شعوره وضميره أينما وجد. وزاد الموقف سوءًا أن صديقًا حميمًا له، مات فجأة، وحدث اغتيال صديق آخر في ظروف غامضة. لقد تركت هاتان الحادثان في نفس مارتن تأثيرًا عميقًا، واستولى عليه الخوف وأخذ يسأل نفسه، ماذا يكون مصيره هو لو انقضت حياته بهذه السرعة دون سابق إنذار. وساورته مخاوف الموت وهواجس الأبدية. وهو في طريقه في مدينة مانسفلد إلى أرفورت بينما كان يعبر غابة ستوترنهايم (Stotternheim) حيث اشتدت الزوابع وقصفت العواصف بشدة، وانتشر البرق والرعد. وفي وسط هذا الجو المظلم المخيف وفي وسط الغابة إذا بصاعقة هائلة تقتلع شجرة وتلقي بها عند قدميه وعندئذ ارتمى على الأرض وشعر أنه في لحظاته الأخيرة، وخيل للوثر أن هذا إنذار من الله وأنه ما لم يكرس أفكاره للخلاص فسوف يفاجئه الموت ويلقى حتفه دون أن يسمع اعترافه وتطارده اللعنة. ترى أين يستطيع أن يحيا حياة ينصرف فيها إلى التعبد؟ إن هذا لا يتيسر إلا حيث يقيم حاجزًا بينه وبين العالم، وشواغله ومشاكله وتجاربه. هناك سوف يكرّس وقته وحياته لله، بين أربعة جدران، أو يقهر النفس بالانصراف إلى التقشف، سوف يقوم بعمل عدد كبير وهائل من أعمال الخير والإماتات التي ستكون كافيه لخلاصه وربما لخلاص آخرين عندئذ صرخ بدون تفكير طالبًا النجدة والخلاص من القديسة "آن Anne" - وهي القديسة "حنه" والدة السيدة العذراء- نذر على نفسه أن يصير ان يدخل الدير راهبًا، إذا نجا بحياته. 
مرت العاصفة الرعدية، وقبل أن تجف ملابسه من أثر العاصفة، في 1505م قدم لوثر استقالته للجامعة مع الخاتم الذي أعطى له كأستاذ وانطلق إلى دير القديس أغسطينوس للناسكين في مدينة إيرفورت، وانزوى هناك لكي يستريح قلبه ويهدا ضميره، باحثًا عن الطريقة التي يستطيع بها أن يرضي الله وأن يحصل بأعماله الحسنة وإماتاته الجسدية على حق الدخول إلى السماء. فهل استطاع بها أن يحصل على بر الله وهل هدأ ضميره؟! 
دخل لوثر الدير الأوغسطيني، وكمبتدئ في الرهبنة، وقام بأحقر الأعمال في تواضع لا يخلو من الاعتزاز بالنفس، حيث كان عليه أن يُخضع جسده لضروب التعذيب وأنواع الإماتة وأن يصوم ثلاثة أيام متوالية كل أسبوع وينام على أخشن فراش وبدون غطاء تقريبًا حتى كاد جسمه يتجلد في الأيام الباردة في صومعته الصغيرة، كل ذلك كان إرضاء لله والخلاص من جهنم وربح السماء. قال: "كنت راهبًا ورعيًا أراعي أحكام الطائفة التي أنتمي إليها بشدة إلى حد أنه... إذ قد قدر لراهب أن يدخل السماء عن طريق الرهبنة فإني أدخلها لا محالة... ولو أن هذا الأمر طال أكثر من هذا لكنت عذبت نفسي حتى الموت بالسهر والصلاة والقراءة وغيرها من الأعمال."، وفي إحدى المناسبات عندما اختفى عن الأعين بضعة أيام اقتحم أصدقاؤه عليه خلوته فوجدوه يرقد على الأرض غائب الوعي، وكانوا قد أحضروا معهم عودًا وعزف عليه واحد منهم فاسترد قواه وشكرهم. 
إن قرار دخول لوثر للدير كان نتيجة تفكير طويل وصلاة مستمرة وعميقة. وليس كما يتصور البعض أنه قرار انفعالي بسبب العاصفة. فالحقيقة هي، أن لوثر كان إنسانًا متعلمًا مثقفًا. فقد قضى عامًا كامًلًا وهي فترة الاختبار - وحسب القوانين الكنسية - كان يمكن له خلال هذه الفترة أن يتراجع في قراره، إذا كان قراره بسبب أزمة العاصفة.
لم يكن لوثر في بداية رهبنته، رجلًا يحلم بأن يقوم ذات يوم بدور هام في الكنيسة. ولا بالأحرى بإصلاحها، بل كان يصلي ويدرس ويتقيد بالنظام على وجه دقيق. ويشهد "لوسيان فافر" المؤرخ الكاثوليكي، في كتابه مصير مارتن قائلًا: " ما كان يهم لوثرمن 1505 غلى 1515م، لم يكن إصلاح الكنيسة، بل نفس لوثر، وخلاص لوثر، هذا وحده. وعلى كل حال. وعلى كل حال، أفلا تكمن هنا أصلالته الكبيرة والحقيقية؟" 
والحقيقة الواضحة عن لوثر هي، أنه كان ذكيًا جدًا، فشعر عفويًا بالحاجة إلى آفاق واسعة. وكان الدير بالنسبة له هو مغامرة البحث عن الله، وهي مغامرة نابعة من الداخل. وآمن أن الدير الذي التحق به والرهبان القائمون عليه، هم وحدهم يستطيعون أن يلبوا متطلبات شاب مفكر مثله وهي الدرس والخشوع. فقد كانوا من المصلحين المحافظين. 
رسامة لوثر كاهنًا
قضى لوثر عام الاختبار في الدير، كانت الأنظمة الأوغسطينية صارمة جدًا، ولوثر بتكوينه الروحي، أنغمس قلبًا، وروحًا، وعقلًا، وجسدًا، في التدقيق في تلك الممارسات. وكان الشغل الشاغل للوثر هو التماس وجه الله. 
في 1506م، قرر الدير رسامته كاهنًا في عيد الفصح سنه 1507م، في كاتدرائية إيرفورت. وفي يوم 2 مايو من نفس السنة أقام الدير حفلًا عظيمًا بمناسبة أول قداس يقوم به الكاهن لوثر. ولقد اجتاز في هذا اليوم اختبارًا مريرًا قاسيًا. 
يعتقد البعض أن لوثر شعر بانهزام عندما وصل إلى الجزء من القداس ليردد فيه "الله الحي الحقيقي الأبدي" فسيطر على تفكيره الرعب بسبب خلال وعظمة الله، وجرأته هو في مخاطبة الله، فتوقف لوثر عن الصلاة، لدرجة أن رئيسه الذي كان واقفًا بجانبه اضطر أن يسنده؟ 
أما الأكثر اعتقادًا هو أن انهزام ورعب لوثر، حدث لأنه أصبح كاهنًا، أي الشخص الذي يقوم بعمل معجزة تحول الخبز والخمر إلى جسد الرب. هذه المعجزة التي لا يستطيع أي علماني مهما كانت درجته أو مكانته أو عظمته في الدنيا. ان يعملها ان الله بجلاله وعظمته سيكون بين يديه بعد فترة قليلة عندما ينطق بالكلمات الجوهرية. قائلا هذا هو جسدي وهذا هو دمي. سوف يختفي هذا الخبز الذي يمسكه الآن بين يديه كذلك الخمر أيضًا ويحل محلها كلية وجزئية المسيح. فهل يمكن لي أنا الإنسان الخاطئ أن أمسك بين يدي الله البار القدوس الذي أضطرب اضطرابًا عظيمًا من الوجود في حظرته؟! هذا هو السبب الذي جعل مارتن يضطرب ويخاف وينزعج في نفسه بل شعر أن قواه تدهورت وأن ساقيه لا تقويان على حمل جسده. كان هذا الاختبار بالنسبة للكاهن الجديد قاسيًا ومريرًا. 
انتهى الحفل ورجع كل واحد إلى أعماله، كذلك مارتن إلى قلايته وابتدأ من جديد دراساته وتأملاته وصراعه. كان مارتن في صراع مستمر لأنه كان يرى الله دائمًا كما لو كان قاضيًا مخيفًا. 
وبين الأعوام 1507-1512 اختبر لوثر صراعًا روحيًّا عنيفًا، فلم يهدئ الدير من روعه وخوفه. وقد لا نكون قد جانبنا الصواب إذا قلنا أنه الدير زادة حدة وغضبًا من الله. فمن يعرف ماذا كان يحصل في داخليته عندما كان يختلي بنفسه، أي في مطبخه الداخلي فيتقلب ذات اليمين وذات الشمال ؟ وعندما كان يغوص في أعماق أعماقه، أو ينزل إلى الطبقات السفلية الجيولوجية للذات الباطنية هل كان مضمونًا أن يخرج سالمًا معافى إلى السطح؟ 
أن صراعه لم يكن مع نفسه، بل في التصور الذي يكونه عن الله، فإنه كان يصور إلهًا يعتقده لا يرحم ولم يكن يجد سبيلًا إلى إرضائه. وكان رؤساؤه ومرشده الروحي يقولون له أنه يضل الطريق. ولكنه لم يفهم، فكان لابد له أن من أن يجد الحل والطريق بنفسه. فإن أزمة لوثر كانت عميقة، فقد كان يلزمه حل جذري لا يقل عمقًا عن أزمته. إذًا فما عسى ان يكون هذا الحل؟!
من يعرف حجم الثمن الذي دفعه هذا الرجل قبل أن ينفجر بالحقيقة: أي بالحل المرتقب منذ عشرات السنين؟