الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

المسلم بين الإيمان الحق.. والتأسلم (2)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في كل الديانات السماوية والأرضية يلجأ الشراح الجاهلون، والكهان المضلِّلون، إلى تغليف الخرافات والادعاءات ومصادر النفوذ بغلاف ديني؛ لتمريرها، وغرسها فى عقول أتباع هذه الديانة أو تلك.
فالخرافة هي أيسر سبيل للسيطرة على جماهير لا تقتنع بالواقع، ولا ترتضيه، وإنما تطمح إلى ما يمكن تسميته «ما فوق الواقع»؛ ومن أجل أرضاء هذا الشعور وكسب خضوع هذه الجماهير تأتي الخرافة المغلفة بالإيمان.
ولعل خير تجسيد لهذه المشاعر هو ما أورده الكاتب المبدع يحيى حقي في رواية «قنديل أم هاشم»، فزيت القنديل حتى لو كان قادرًا من الناحيه العلمية أو الواقعية على شفاء مرض العيون؛ فإنه لا يجذب تصديق أحد، ولكن هذه الخرافة احتاجت -كي تصبح أسطورة يصدقها الجميع ويتزاحمون لالتماس شفاء عيونهم عبرها- إلى أن يعلق يحيى حقي قنديله في ساحة مسجد السيدة زينب (أم هاشم).
والكهان في كل مكان وزمان لا يعرف أغلبهم كلمة «لا أعرف» أو «لا أدري»؛ ومن ثم يحتاج إلى اختلاق قصص وروايات، وتفسيرها؛ بحيث ترضي شهوة الأتباع إلى التعلق بالكرامات والخوارق، فتزدحم كتب التراث عند المسلمين بحكايات وأساطير وخرافات لا يمكن لعاقل أو نصف عاقل أن يصدقها، ومع ذلك تبقى وتترسخ في عقول وخواطر البسطاء، ويعتبرون أنها جزء لا يتجزأ من الدين المقدس، وأن الإيمان بها هو بوابة الدخول إلى الإيمان الحق.
وإذا كان عمر بن الخطاب قد سئل في الآية الكريمة: ﴿وفاكهةً وأبًّا﴾، ما هو «الأبّ»؟ فأجاب ببساطة: «لا أدري»، ثم أردف: «نُهينا عن التفيقه» (أي ادعاء الفقه، والفقه هو المعرفه بالشيء).. فإن واحدًا من مؤلفي كتب التراث في الفقه الإسلامي سُئل: من هم «يأجوج ومأجوج» (الذين ورد ذكرهم في القرآن)؟، ولأنه شيخ ذو كرامات، ولا يمكن أن يتواضع تواضع ابن الخطاب، أجاب مخترعًا حديثًا شريفًا منسوبًا إلى حذيفة ومرفوعًا للرسول قال فيه: «إن يأجوج ومأجوج أمة، وكل أمة أربعمائة أمة، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح. وهم من ولد آدم، يسيرون في خراب الأرض، وهم ثلاثة أصناف.. صنف مثل شجر الأرز، وصنف طوله وعرضه سواء، عشرون ذراعًا ومائة، وهؤلاء لا تقوم لهم الجبال ولا الحديد، وصنف منهم يفرش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، لا يمرون بفيل أو وحش ولا خنزير إلا أكلوه، ومن مات منهم أكلوه، مقدمتهم بالشام وساقتهم في خراسان، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبريا، ومنهم من تنبت لهم مخالب في أظافرهم، وأضراسهم كأضراس السباع»!! انتهى النص وما من تعليق.. وواحد آخر من أصحاب كتب التفسير سئل عن سفينة نوح فتطوع بإجابة تقول: «إن نوحًا بنى سفينته من عظام حيوان يبلغ طوله مسافة ما بين السماء والأرض، ويبلغ عرضه مسيرة عام كامل»!
وقد يتساءل البعض: وما حاجة هذا الشيخ أو ذاك إلى ترديد هذه الخرافات؟ وقد تكون الإجابة هي: ادعاء الجاهل بمعرفة كل شيء، لكن الإجابة الأكثر رجحانا هي: تكريس مثل هذه الخرافات مغلفة بالدين المقدس في العقل الجمعي للمسلمين؛ كي تفسح المجال واسعًا للرضوخ أمام جبروت هذه الكرامات، ويصبح متأكدًا أنه سيكون مسلمًا بخضوعه لها.
ونقرأ بعضًا من كرامات «الشيخ».. “,”فالشيخ رأى الفاسق فأمر نعليه فطارا، وظلا يضربان رأسه حتى مات! وإنَّ تابِعَ الشيخ (وليس الشيخ فقط) يمشي على الهواء، وتأتي الشمس لتسلم عليه، وإنه، أي الشيخ، وهو في المهد رضيع، كان يمنع نفسه عن ثدي أمه طوال شهر رمضان من الفجر إلى المغرب لأنه صائم، وأن أهل بغداد رأوه رأي العين وهو واقف على مياه نهر دجلة والأسماك تجيء أفواجًا فتسلم عليه وتقبل يديه ورجليه»!!، ثم «إن الشيخ تشفع عند الله في مريد له ليغفر له ذنبًا عظيمًا فلم يقبل الله شفاعته، فغضب الشيخ، وكف يده عن تصريف أمور الكونية ومراسم الغوثية، وكان أن قبل الله شفاعة الشيخ وغفر عن مريده»..! [راجع التفاصيل – الهلال – نوفمبر 1967 – مقال محمود الشرقاوي: محنة المفكر التقدمي].
ونأتي إلى أصحاب الكرامات المصريين، فسيدي أبو العلا صاحب المسجد المشهور في بولاق أبو العلا، كان جالسًا في موضع مسجده، فجاءته امرأة باكية تشكو أن تمساحًا ابتلع ابنها وهو يعوم في النيل، فغضب الشيخ أبو العلا، ونادى: يا تمساح هات الولد، ولم يستجب التمساح؛ فأمر أبو العلا مياه النهر فانزاحت، وأوشك النهر على الجفاف، فأتت التماسيح والأسماك باكية، وقدمت الولد سليمًا ًلمولانا“,”!
ويكتب الأستاذ محمود الشرقاوي في عام 1967: «إن هؤلاء الذين يقرأون هذا اللون من “,”الثقافة“,”، ويصدقون هذا الصنف من الخرافات والكرامات، يقوم في عقولهم سد عال منيع، يحول بينهم وبين التفكير العاقل، الذي يحول بينهم وبين إعمال الفكر والعقل، وينساقون خلف الخرافات والكرامات، وينصاعون لأصحابها»، ثم يقول وكأنه يتنبأ بما سيكون: «وسوف يأتي من هؤلاء القوم جيش الظلام الذي يطمس ضوء التفكير العقلي».
وهكذا يختفي من فكر المؤمن وقلبه ضوء الإيمان العاقل.. الملتزم حتى بالقول الشعبي: «ربنا عرفوه بالعقل»، وينقاد مطيعًا خاضعًا مستسلمًا لكل ما يقوله له «سيدنا»، شيخًا كان، أو أميرًا للجماعة، أو مرشدًا للإخوان.
وتمضي بنا الكتابة نحو التمييز الواجب والحتمي بين الإسلام والتأسلم.