الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

أسرار آخر 7 دقائق قبل غرق العبارة "سالم إكسبرس"

تفاصيل جديدة بعد مرور ربع قرن على غرقها

العبارة سالم إكسبريس
العبارة سالم إكسبريس
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قوارب نجاة غارقة فى القاع.. هياكل رماثات نجاة تبدو متلاشية المعالم بفعل الصدأ والتآكل.. راديو وراديو كاسيت أصابهما الصدأ بفعل الغرق ومرور الزمن.. حقيبة مفتوحة ليس فيها ملابس لإنسان أو أى أشياء ويملؤها الماء.. وأخرى ممزقة ومثقوبة منظرها يثير الأحزان.. وحذاء تخلو من الجلد ساكنة فى القاع وتشهد على الهول الذى كان ومرور الزمان.. وصندوق مفتوح تبرز منه أشياء لا تُرى بوضوح ما تكاد تراها العين حتى تضع أمامها علامات استفهام.. وآلة كاتبة ساكنة فى القاع صمتُها أبلغ من كل ما كتبته من كلام على مَرِّ ما سبق من أيام قبل غرقها فى الماء.

وبجوار تلك الأشياء ترقد على جانبها الأيمن غارقة فى الماء السفينة الكبيرة التى غُطت مساحات كثيرة من بدنها العملاق بالطحالب البحرية والشعاب المرجانية التى لم تسلم منها حتى الدفة والرفاص.
شعار الشركة المالكة المثبت على مدخنة السفينة الغارقة تكاد تخفيه الطحالب والشعاب.. واسم السفينة البارز فوق جانبى المقدمة والمؤخرة بصعوبة بالغة يمكن قراءته الآن تحت الماء.
سلحفاة وأسماك وثعبان ماء رصدتها الكاميرات تتجول بين تلك الأشياء التى يبدو بينها الغواص وكأنه رائد فضاء يصور مأساة فى كوكب آخر من كواكب السماء، وصارت سفينة الركاب التى كانت تضج بالحياة وتضيق بالزحام مثل كهف فى قاع البحر تحت الماء تتخذه الأسماك كمخبأ تدخل فيه وتخرج منه ببطء بصورة تثير الحزن.

كل هذه الأشياء تظهر فى صور التقطت للعبارة (سالم إكسبرس) تحت الماء وتعرضها عشرات المواقع الأجنبية على الشبكة العنكبوتية باعتبارها معلمًا من معالم الحزن التى يجب أن يراها هواة الغطس الذين يزورون من شتى أنحاء العالم مصر ويغطسون فى الغردقة وشرم الشيخ.
وكانت العبارة المصرية سالم إكسبرس، قد اصطدمت بينما كانت تبحر فى مياه البحر الأحمر قبل منتصف ليل الرابع عشر من ديسمبر عام ١٩٩١ بالشعاب المرجانية، بينما كانت فى طريقها إلى ميناء سفاجا قادمة من ميناء جدة، مما تسبب فى أن تفتح الشعاب فى أسفل بدنها الأيسر المغمور تحت سطح الماء فتحة مساحتها تقدر بنحو مائة متر مربع بسهولة ويسر كما يفعل السكينُ فى قطعةِ من الزبد، فتدفقت إليها آلاف الأطنان من ماء البحر الذى ملأ غرفة الماكينات وعدة قطاعات، فغرقت كليًا فى غضون نحو سبع دقائق فقط العبارة العملاقة على بعد نحو ثلاثة عشر ميلًا بحريًا من ميناء سفاجا.
وروى شهود العيان فى ذلك الوقت أن كثيرًا من الركاب صعدوا إلى السطح أثناء الدقائق السبع ورفعوا أيديهم متضرعين إلى الله العظيم الرحمن ينادونه مخلصين له الدين بالدعاء الذى كان يشق الظلام فى طريقه إلى السماء، منهم من كان يقول: (يا رب أنا مش عايز أموت)، ومنهم من كانت تقول: (يا رب نجينى مش عشاني.. عشان ولادي)، بينما كان يقول جمهور الركاب: (لا إله إلا الله، الله أكبر، لا حول ولا قوة إلا بالله).
لم يستطع أفراد الطاقم فى ذلك الوقت إنزال قوارب النجاة أو حتى الرماثات، غير أن أكثر من قارب ورماث طفا بعد الغرق بقدرة الله لإنقاذ بعض الركاب، وغرق كثيرون ممن كانوا يرتدون سترات النجاة، ومن الركاب من نجا بمعجزة عن طريق الإمساك بجركن مصنوع من البلاستيك فارغ ومغلق، أو بجثة راكب شبه طافية ترتدى سترة نجاة غير صالحة، أو بباب خشبى طفا فوق أمواج البحر الأحمر التى صارت بفعل ظلام الليل جبال حبر أسود.

كان الميناء قد تلقى استغاثة العبارة قبل أن تغرق فى الماء، غير أنه لم يكن مجهزًا للبحث والإنقاذ اللذين تأخرا بضع ساعات وبدأ فى الصباح، وتكفلت بهما آنذاك القوات المسلحة المصرية التى أرسلت إلى موقع الغرق كاسحات ألغام.. فضلًا عن بعض شركات البترول التى شاركت فى البحث والاستطلاع بمروحيات.
غرق نحو أربعمائة وبضعة وخمسين، ونجا نحو مائة وثمانين، منهم عشرون من أفراد الطاقم الذين كان يقدر عددهم بنحو ثمانين فردًا. غرق كل الأطفال وكل النساء فيما عدا واحدة. كانت صور بعضهم التى نشرتها الصحف فى ثلاجة المشرحة مؤلمة، وخَيَّمَ الحزن فى ذلك الوقت على كل مصر.
وكان من الغرقى ـ رحمهم الله ـ القبطان حسن مورو ربان العبارة، وجد الغطاسون جثته فى غرفة القيادة، وقد أخرس استخراج الجثة من الغرفة بعض الألسنة التى كانت آنذاك بمثابة منصات لإطلاق شائعات تزعم كذبًا هروب الربان.
ومن القصص المؤثرة فى تلك الكارثة قصة سيدة قالت لزوجها قبل أن تلقى ربها: أستحلفك بالله.. هل أخطأت فى حقك قبل اليوم؟!، فقال لها: لا والله، فقالت: سامحني، فقال: سامحتك، فقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم نظرت إلى زوجها قائلة: أرجو الله أن يجمعنى بك فى الجنة. ومن تلك القصص قصة امرأة عجوز تعلقت بالربان فى غرفة القيادة وهى تقول بينما كان هو فى حالة ذهول: خذنى معك يابنى أنا لا أريد أن أموت!. ومنها ـ أى تلك القصص ـ نجاة رجل مشلول بينما غرق السليم المعافى أخوه!. ومنها أن نجا راكب أوصله دولفين سالمًا إلى الشاطئ!. ومنها أن قيل لزوجين عجوزين كانا فى قمرتهما أثناء الدقائق السبع: هيا اخرجا، فقال الزوج: إن خرجنا سنغرق فى الماء ونموت، الأفضل أن نبقى هنا وأمر الله فى كل حال سيكون. ومنها أيضًا أن الغواصين الذين وصلوا إلى العبارة بعد غرقها بساعات سمعوا أصوات طرقات صادرة منها وكأنها استغاثة ممن ظلوا أحياء بداخلها بسبب احتباس الهواء فيما يتواجدون فيه من حيِّزٍ من الفراغ مثلما يُحْبَسُ الهواء فى كوب إن غُمِرَ فارغًا ومقلوبًا فى ماء يملأ إناء. رحمهم الله الرحمن.

والعبّارة التى صارت مقبرة كبرى لجثث لم تخرج منها بعد والتى يحلو للبعض أن يسميها تيتانك مصر، كانت قد استقرت بعد غرقها فى الماء فوق جزيرة من الشعاب التى علقت بها بعض الجثث، وموقع الغرق معروف باسم وادى جاسوس، وينعته الصيادون وياللعجب باسم: (وادى أبوكفن) لأنه يُعَدُ أكبر مخبأ لأسماك القرش الأبيض.
وسمك القرش الأبيض مصنف ككائن بأنه سفاح جائر وليس مجرد قاتل، ويسميه الأستراليون بأنسب اسم وهو (أسنان البحر)، ومما يُنقَل عن العالم الأمريكى ماك كوشر قوله إن الطعام المفضل لسمك القرش الأبيض هو الإنسان بكامل ملابسه بخلاف ما كان معتقدًا من قبل، حتى أن الإنسان لا يملك إلا أن يُدهش عندما يرى ما تحتويه معدة هذا القرش، ومنها جثة غواص ببذلة الغطس!.
وقد رصدت عيون وكاميرات الغواصين فى ذلك الحين دلافين تحيط بالغرقى، ويعمل كل منها فى الأعماق كالحارس يحول بين أسماك القرش الأبيض وضحايا الحادث.. فالقرش الأبيض يخشى الدولفين الذى يعرف كيف يصيبه فى مقتل!، وسبحان من وضع سره فى أضعف خلقه.
تعرض الناجون من أفراد الطاقم فى مصر للتحقيقات عدة مرات من قِبَلِ النيابة العامة فى أكثر من منطقة ومن قِبَلِ لجان فنية متخصصة، وبالمثل تعرض لتحقيقات النيابة العامة مالك العبارة المنكوبة سالم عبدالرازق سالم صاحب شركة ساماتور للملاحة الذى قال لمساعد النائب العام آنذاك لما اشتدت عليه وطأة التحقيقات: لقد وقع الاختيار من قبل على عبارتى من بين كل العبارات لنقل جنود مصر لتحرير الكويت وصعد فوق سطحها لشد أزرهم يومئذ الرئيس مبارك رئيس الجمهورية بمباركة مؤسسات وهيئات بحرية وجهات أمنية وسيادية، واليوم تشككون فى صلاحيتها الفنية!، يبدو أننى أخطأت لما جعلتُ عبَّارتى وسفنى ترفع العلم المصرى لا البنمي!، لقد رفضت ـ بقصد أن أخدم مصر ـ قبول عرض نيل أكثر من جنسية أجنبية من بينها البريطانية، إن دولًا كثيرة تعرض عليَّ أن أرحل إليها من بلدى قاطرًا سُفني.. غير أننى لم أفعل لأنى أعشق وطني.
التحقيقات أثبتت أن سترات النجاة التى مات كثيرون ممن ارتدوها لم تكن صالحة بسبب انتهاء عمرها الافتراضي، فضلًا عن أنها لم تكن تختبر صلاحيتها بصورة دورية بالاختبارات القياسية، وانتهت التحقيقات بأن وجهت للربان ستة اتهامات، ثلاثة منها أساسية وثلاثة فرعية:

أما الثلاثة الرئيسية فأولها: أنه ـ أى الربان ـ كان يدخل ميناء سفاجا بسرعة العبارة العادية بينما كان ينبغى أن يدخل بسرعة مناورة بحرية، أى بسرعة بطيئة نسبيًا. وثانيها: أنه دخل الميناء من المدخل الجنوبى الأخطر وغير المجهز بينما كان يجب أن يدخله من المدخل الشمالى الذى هو آمن ومعتمد. أما ثالثها: فهو أنه كان يدخل سفاجا ليلًا مع أن دخول هذا الميناء ليلًا ممنوع.
وأما الثلاثة الفرعية فأولها: أنه فتح باب العبارة الرئيسى المسمى بالرامب استعدادًا لصعود المرشد، ذلك لأن النظام الهيدروليكى لباب المرشد الضيق لم يكن يعمل وهو الأمر الذى ولا شك تسبب فى أن يكون الغرق أسرع لأن مساحة باب الرامب تقدر بنحو ثلاثين مترًا مربعًا، والماء الذى تدفق إلى العبارة منه ملأ فى الجراج الحيز الكبير من الفراغ. وثانيها: أنه لم يكن ينظم لأفراد الطاقم بصورة دورية فى كل رحلة من الرحلات مناورة فلائك نجاة، وهو الأمر الذى جعل بكرات وأسلاك رفعها وإنزالها تصدأ، ومن ثم صارت عمليات إنزالها أصعب. وأما ثالثها: فهو أنه أمر بربط رماثات النجاة بحبال، ولهذا لم تطفْ تلقائيًا كما هو مفترض مباشرة بعد الغرق.
والرماث هو أسطوانة من الفيبرجلاس محكمة الغلق، يخرج منها حبل، إذا ما شده أحد فإن هذه الأسطوانة تُشق وتُفتح وينتفخ منها زورق مطاطى دائرى الشكل يمكن أن يحمل عددًا من الأشخاص تحدده جهة الصُنْع.
كان الربان آنذاك يدخل الميناء بسرعة ثقة فيما يتمتع به من كفاءة وخبرة، وتوفيرًا للوقت الذى هو ولا ريب يقدر لمالك العبارة بالنقد!.. ودخل الربان من المدخل الجنوبى بدلًا من المدخل الشمالى لتقصير مدة الإبحار توفيرًا للديزل والسولار!.. ودخل الميناء ليلًا ولم ينتظر إلى الصباح توفيرًا للوقت الذى يقدر بالمال!.. فالعاملون فى شركات القطاع الخاص يرتفع شأنهم عند المُلاك كلما وفروا لهم المال!، ومن العجب العُجاب أنه دخل بتلك السرعة من ذاك المدخل فى تلك الليلة بمعرفة وإشراف سلطات الميناء آنذاك التى كانت تتابع عبَّارته من خلال شاشات الرادارات البحرية وكانت تتواصل معه عبر أجهزة الاتصال اللاسلكية!!

ولئن كان الربان قد أخطأ بربطه للرماثات فلقد كان المقصد هو حمايتها من عبث بعض الركاب، ذلك لأن بعض ركاب السطح على مَرِّ الرحلات السابقة لتلك الرحلة كانوا ينزلونها بجهل من أماكنها ويسحبون الحبال الخارجة منها بقصد أن يقطعوها عند أطوال معينة لاستخدامها فى ربط ما يملكونه من أمتعة، مما كان بالطبع يتسبب فى فتحها أوتوماتيكيًا وانتفاخ زوارقها تلقائيًا، وقد حدث أن انفتحت عدة رماثات بفعل عبث بعض الركاب، ومما كان يذكره أفراد الطاقم فوق سطح العبارة كموقف من المواقف الطريفة أن أحدهم ترك حذاءه بجوار الرماث المنفتح وهرب!، ذلك لأن حجم زورق الرماث المطاطى بعد أن ينتفخ يعادل على الأقل نحو خمسة عشر أمثال حجم غلافه الصلب وهو منغلق، ولهذا فمن الممكن أن يُصاب فورًا العابث به بالرعب لأنه بالطبع ليس على دراية بماهية هذا الأمر!
أما مناورات فلائك النجاة فلقد كانت تقام تحت رعاية الربان بين فترة وأخرى وليس كل رحلة، ولعل السبب فى صدأ بكرات وأسلاك رفع وإنزال تلك الفلائك إن كانت حقًا قبل الغرق قد صدأت ـ لأنها ولا ريب كانت بالطبع دوريًا تُشَحَم ـ فهو شدة حرارة وشدة رطوبة جو ميناء جدة، مما قد يتسبب فى إذابة الشحم بفعل الحرارة، ومن ثم الشروع فى الصدأ بفعل الرطوبة، وإن كان هذا لا يعفى الطاقم من المسئولية، غير أن الحق الذى ينبغى أن يُقال هو أن عملية إنزال الفلائك تستغرق وقتًا ولا ريب أطول من السبع دقائق، فالغرق بسرعة فى تلك الأثناء كان بمثابة سحب كراسة الإجابة من طالب قبل انتهاء المدة المعتمدة للامتحان.
ولما كان من المتعذر فتح الباب المخصص للمرشد، فلم يكن هناك بُدْ وقتئذ من فتح باب الرامب، غير أن خطأ الربان هو أنه فتحه قبل وصول المرشد بلحظات طوال بينما كانت العبارة حينئذ تشق بعزم عُباب البحر فى جوف الليل.