رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

"أكاذيب صغيرة".. حلقات خاصة من مذكرات راقصة متقاعدة "5"

الكاتب مصطفى بيومي
الكاتب مصطفى بيومي وأحمد زكي وسعاد حسني ونجيب محفوظ
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تنشر «البوابة» رواية - تحت الطبع - للكاتب مصطفى بيومى، تحمل عنوان «أكاذيب صغيرة» وهى عبارة عن مذكرات راقصة معتزلة اعتمد فيها «بيومى» على طريقة جديدة فى الكتابة حيث ينشر نص الكلام كما جاء على لسان بطلته التى أشار إليها باسم «ليلى رمزى» ثم يعيد صياغته أدبيًا مرة أخرى من خلال كاتب محترف.


من لسان ليلى
حلو قوى الكلام ده يا مختار.. مستوى ومتسبك على نار هادية وزى الفل.. أنت صنايعى صحيح ومخك الألماظ ده كله مفهومية.. الكتاب ماشى لغاية كده تمام التمام.. لكن الموضوع اللى عايزنى أتكلم فيه النهاردة صعب شويتين.. أنت عارف طبعًا إنى ماليش تقل فى حكاية القراية والثقافة دى.. قول يا باسط وصلى ع اللى يشفع فيك.. أنا صحيح واخدة دبلوم تجارة قد الدنيا.. وكنت جايبة فى الإعدادية مجموع يدخلنى ثانوى.. واشتغلت ييجى سنة فى وزارة الصحة.. لكن آخرى قراية الجرايد والمجلات.. ولما ربنا كرمنى بقيت أقرا السيناريوهات بتوع الكام فيلم اللى عملتهم.. بينى وبينك عمرى ما قريت كتاب.. الكدب على الله خيبة.. مرة واحدة بس قريت كتاب من الجلدة للجلدة.. من قيمة تلاتين سنة كده.. الست اعتماد خورشيد عملت كتاب كسر الدنيا.. وسمعت إنه مليان فضايح وبلاوى زرقا.. بعت اشتريته وسهرت عليه.. يالهوى يا لهوى يا أخويا على اللى كان بيحصل وإحنا مش داريين.. والله أنا ليلتها اتخضيت واترعبت.. ودعيت ربنا يمن عليا بالستر.. بينى وبينك اتصدمت قوى م اللى مكتوب عن أسماء كبيرة.. فكرتى عنهم كانت غير كده خالص.. هو مش الكلام ده حصل برضه ولا الكتاب كدب؟.. ما علينا.. أرجع أقولك أنا ما ليش فى حكاية الكتب والقراية.. بس أبويا الله يرحمه كان بيشترى مجلة الكواكب عشان أمى بتحبها.. كنت بقلب فيها واتفرج على الصور وأنا صغيرة.. ولما كبرت واتعلمت القراية بقيت أقراها صفحة صفحة.. وأعرف كل الأخبار عن الأفلام الجديدة والمسرحيات والأغانى.. محدش فى اللى اتجوزتهم كان ليه فى القراية إلا الشيخ عبدالله.. كان عنده مكتبة كبيرة قوى.. وكل يوم والتانى يشترى كراتين كتب.. حاول يجرنى لسكة القراية ما عرفش.. أيوه افتكرت صحيح.. لما كنت بشتغل فى السينما.. المنتج جابلى مرة رواية صغيرة كده للأستاذ نجيب محفوظ.. كان اسمها أفراح القبة تقريبًا.. المنتج قاللى إنه عايز يقلبها فيلم.. ولما سألته عن دورى قال إنه بطولة.. هعمل ممثلة اسمها درية ولا بدرية.. مش فاكرة يا مختار.. هى بتحب عيل أصغر منها وهتتجوزه وتموت بعد ما تولد.. بيني وبينك اتشائمت.. إيه النكد ده؟.. قلتله ربنا يسهل.. ساب الكتاب ومفتحتوش.. هو كمان صرف نظر.. بس على فكرة أنا شفت أفلام كتير للأستاذ نجيب.. كان نفسى ومني عينى أعمل دور الست شادية فى زقاق المدق.. بس كنت هوصى المخرج متموتش.. تعويرة بسيطة كده وترجع ترقص وهى شايلة العلم.. مش أحسن برضه؟.. المهم بقى يا سيدى.. مينفعش تصرف نظر عن الفصل ده؟.. اللى أنت كاتبه فى الورقة اللى قدامى دا كتير.. إيه ده.. مسرح.. موسيقى.. أدب.. شعر.. تاريخ.. سينما.. فن تشكيلى.. عمارة.. سيرة ذاتية.. دين.. تصوف.. علم نفس.. ألا يعنى إيه السيرة دي؟.. خف شوية يا حبيبى.. عجبتك الكفتة؟.. يا راجل كل.. طب اشرب كاس.. وحياتى عندك لتشرب.. أنت يعنى مصمم؟.. ماشى.. شيل أنت بقى الليلة كلها.. اكتب يا سيدى اللى أنت عايزه.. شوف.. موضوع الغنا والأفلام مقدور عليه.. أنا سميعة درجة أولى.. ومن صغرى بحب السيما.. ورثت عن أبويا حب الست أم كلثوم والست ليلى مراد.. لما كنت فى إعدادى وثانوى تجارى حبيت نجاة وشادية وفايزة وعبدالحليم وفريد ومحمد رشدى.. أياميها كان الطرب فرز أول.. مش زى أيامنا الغبرا.. لما اشتغلت رقاصة كان بيغنى قدامى ناس جامدين برضه.. خد عندك.. أحمد عدوية وكتكوت الأمير وحسن الأسمر وعبدالباسط حمودة.. وشوية كده مع شعبان عبدالرحيم وحكيم.. على فكرة يا مختار.. الشيخ عبدالله كان غاوى مزيكا أفرنجى.. مكنتش بفهم منها حاجة.. يقعد معايا بالليل ويكلمنى عن بيتهوفن وباخ وموزار.. وواحد تانى كده اسمه صعب.. ولما يسمع عربى كان يشغل الست فيروز.. تصدق بالله.. قول يا أخى لا إله إلا الله.. ما تشرب يا مختار.. كنت بأقول إيه.. أنا دلوقتى بسمع الست أم كلثوم على طول.. بصراحة صوتها مالوش مثيل.. وكلامها موزون وليه معنى.. اسمعها كده يا سيدى وهى بتقول.. كنت أشتكى لك أيامى.. أشكى لمين ظلمك ليا.. والا لما تلعلع فى رباعيات سى عمر الخيام.. الله الله يا ست.. ربنا يرحمها ويحسن إليها.. دى مش ممكن تتكرر تانى يا سى مختار.. صدق اللى قال المغنى حياة الروح.. يسمعها العليل تشفيه.. أى والله صحيح.. لما أخويا أنور راح الله يرحمه.. وحصلته أمى.. كان أبويا يسمع الست ليلى وهى بتغنى.. يا مسافر وناسى هواك.. يغنى معاها ويعيط.. أيام.. والله الغنا الحلو دوا بجد.. مش هتصدق لو قلت لك إن الحاج صلاح عرام كان غاوى محمد عبدالمطلب.. سيبك من الدقن وزبيبة الصلا.. لما يحشش وينسطل ويسمعه تحس إنه طاير فى السما وعامل دماغ.. والله الدنيا مليانة يا مختار.. اشرب يا راجل.. الأفلام دى بقى حكاية طويلة.. شفت ياما.. السنة اللى خدت فيها الدبلوم رحت مع محمود السيما.. شفت معاه فيلمين حلوين قوى.. فاكراهم كأنى شفتهم إمبارح.. الأولانى اسمه المراية.. بتاع الست نجلاء فتحى والمرحوم نور الشريف.. والفيلم التانى اسمه غروب وشروق.. الست سعاد حسنى والأستاذ رشدى أباظة.. لكن أكتر ممثلة بحبها فاتن حمامة.. ست كاملة من مجاميعه.. أحسن ممثل رشدى أباظة طبعًا.. بموت فيه من صغرى.. كان أمل حياتى أمثل معاه.. ما حصلش نصيب.. الله يرحمه اتخطف بدرى.. أحمد رمزى حكاية لوحده.. أنا عرفته وقعدت معاه.. دمه خفيف زى الشربات.. وأحسن واحد يعامل الستات.. أول مرة شفته كنت مع جوزى.. كنت على ذمة فتحى أياميها.. لقيته بيقولى إنى أجمل واحدة شافها فى حياته.. بعدين بص لفتحى وضحك.. قاله ما تزعلش.. اللى يشوف القمر لازم يقول الله.. أنا مش عارفة ليه بطل تمثيل وهو صغير.. تعرف يا مختار.. أنا يومى طويل قوى.. أنا بشوف فيلمين تلاتة.. الريحانى وإسماعيل ياسين.. عماد حمدى وأحمد مظهر.. لبنى عبدالعزيز ونادية لطفى وزبيدة ثروت.. هى الناس العظيمة دى كلها راحت فين.. لا.. بصراحة ماليش تقل على الأفلام الإنجليزى والأمريكانى.. ولا حتى الهندى.. النبى عربى يا مختار والبلدي يوكل.. لا يا شيخ.. أنت بتصدق الكلام ده.. سينما إيه اللى بتعلم العيال البوظان؟.. اليومين دول بيتولدوا بايظين.. مش محتاجين حد يعلمهم.. والنبى من زمان قوى ما رحتش مسرح.. عمرى ما فوت مسرحية لعادل إمام.. من أيام مدرسة المشاغبين وشاهد ما شافش حاجة.. دا يضحك الحجر.. رسالة إيه يا مختار بس وفن رفيع إيه؟.. هو ممثل ولا واعظ؟.. المهم الناس تفرفش وتنبسط.. ياما عرضوا عليا أعمل مسرحيات.. تمثيل ورقص سوا.. لا يا أخويا.. دى مرمطة وبهدلة وتعب.. أنا مالى وفيفى عبده؟.. كل واحد حر فى حياته.. لا.. كفاية كده.. عشان خاطرى يا مختار.. والنبى يا شيخ كفاية.. اتصرف انت فى الفصل ده.. قول الشويتين الحلوين بتوعك.. أنا عارفة إنك هتسد.. هو فيه حد برضه يراجع وراك ولا يعدل عليك.. اشرب يا شيخ.. والنبى لتشرب.


وحين أصبح نصًا أدبيًا
تلعب التنشئة الأسرية دورًا بالغ الأهمية فى تشكيل الشخصية وتحديد الموقف النظرى والعملى من الثقافة، وقد ولدت فى بيت ذى ثقافة رفيعة وخصوصية حضارية عصرية، تعلى من شأن القراءة، وتجل الفن وتقدره، وترى فى الموسيقى والتصوير والعمارة والنحت والباليه عناصر ضرورية فى النسيج اليومى للحياة. المكتبة تحتل غرفة فسيحة وتضم آلاف الكتب باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، وتزدحم الجدران بعشرات اللوحات العالمية والمحلية، وفى الردهة الرئيسية بيانو تعزف عليه أمى، فهل كنت أملك إلا أن أتأثر بالمناخ وأندمج فى منظومة قواعده ومعطياته وقيمه؟.
بعد اعتزال العمل الفنى والابتعاد عن صخب الحياة الاجتماعية، أنفق جل وقتى فى القراءة والاستماع والمشاهدة. القراءة فى التصوف تستغرق الأغلب الأعم من الساعات المخصصة للقراءة، وأجد فى حكم ابن عطاء الله السكندرى لذة ومتعة، ومع صعوبة «الفتوحات المكية» لمحيى الدين بن عربى، فإننى أثابر وأجاهد للتواصل معه، أما الأقرب إلى قلبى فهو النفرى صاحب الكتاب المتفرد المدهش غير المسبوق «المواقف والمخاطبات». وقد انتبهت قبل سنوات إلى مكانة وأهمية فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الشيخ عبدالحليم محمود، واقتنيت كل كتبه عن التصوف. أبحث فيها عن أداة تعيننى علي فهم العالم الثرى الذى يؤهلنى لإعادة اكتشاف الوجود، وأقول لنفسى كم أنا محظوظة سعيدة الحظ لأننى أقرأ جلال الدين الرومى بالعربية والإنجليزية، فهو كنز لا ينضب، يثرى الروح ويضيء القلب، أما ديوان الحلاج فهو بالقرب منى دائمًا.
الأدب واحتى وراحتى، وأجمل ساعات عمرى هى تلك التى أقضيها فى قراءة الأعمال الروائية ثقيلة الوزن عظيمة القيمة. بالإنجليزية والفرنسية قرأت تشارلز ديكنز وبلزاك وإميل زولا وتولستوى وتورجنيف ودو ستويفسكى وجون شتاينبك وكازانتزاكى وهرمان هسة وبيرل بك وفلوبير، وجورج أورول ومارسيل بروست ولورانس وكونديرا وماركيز وعشرات غيرهم، أما الرواية العربية فأقول إن عددًا غير قليل من كتابها يناطحون الأفذاذ العالميين، وفى مقدمة هؤلاء نجيب محفوظ والطيب صالح وحنا مينا وعبدالرحمن منيف. أجد فى الروايات الجيدة، بمختلف اللغات، بديلاً مشبعًا لما أفتقده فى الحياة، وأزداد وعيًا وإدراكًا بفضل التجارب التى أطالعها وأندمج فيها وأذوب إلى درجة التعايش الكامل مع الأحداث. من أحلامى التى لم تتحقق، وما أكثرها، أن أقدم فيلمًا عن إحدى روائع نجيب محفوظ التى لم تُقدم فى السينما، وقد قطعت شوطًا كبيرًا فى الإعداد لإنتاج روايته البديعة «أفراح القبة»، وعشت مع شخصية بدرية حتى استوعبت أبعادها لأتمكن من تجسيدها، لكن المشروع تعثر ولم يكتمل.
لقد بدأت رحلتى مع القراءة بالشائع المنتشر من كتب ومجلات الأطفال خلال مرحلتى الدراسة الابتدائية والإعدادية، ومع تجاوز سنوات الطفولة والمراهقة، تعددت وتنوعت القراءات. عندما عرف المرحوم أبى برغبتى فى الالتحاق بكلية الآداب ودراسة التاريخ، أوصانى أن أبدى الاهتمام الأكبر بالتاريخ الإسلامى وقضاياه الشائكة، وهو من دلنى على مؤلفات الدكتور طه حسين التى يراها ضرورية لا غنى عنها لتشكيل رؤية ناضجة تتكئ على المنهج العلمى، وبفضل توجيهه أيضًا اطلعت على عبقريات العقاد ودراسات أحمد أمين والدكتور محمد حسين هيكل، أما كتاب الشيخ على عبدالرازق عن «الإسلام وأصول الحكم» فقد ترك فى نفسى أعمق الأثر، وقد عدت إليه مجددًا قبل سنوات، عند انتخاب الرئيس الإخوانى محمد مرسى، وفى سنة حكمه ثقيلة الوطء تيقنت عمليًا من خطورة الخلط المدمر بين الدين والسياسة، بكل ما يترتب على ذلك من تداعيات ونتائج وآثار كارثية.
فى سنوات الجامعة، لم يكن تعلقى بالقراءة فى التاريخ يتوقف عند ما يتطلبه التخصص والمقرر، وقد وجدت فى العصر المملوكى جاذبية طاغية وسحرًا خلابًا فقرأت عنه عشرات الكتب بالعربية والإنجليزية، وبعد رحيل الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر، حدثنى أبى طويلًا عن الحياة المصرية قبل سنة ١٩٥٢، وأكد لى أنها تعرضت للكثير من التشويه العمدى لخدمة النظام الناصرى. قرأت عن المرحلة فاكتشفت حجم التزييف الذى يتعرض له تاريخنا القريب، فكيف يكون الأمر إذن مع العهود البعيدة؟. كانت مصر حافلة بالكثير من الإنجازات الرائعة بعد ثورة ١٩١٩، وشهدت نهضة اقتصادية وثقافية وتعليمية، ولا أنسى نبرة صوت أبى المغلفة بالمرارة وهو يعترف بخوفه من الحديث معى قبل سنوات، فى ظل القبضة الأمنية القاسية التى لا تعرف الرحمة، وتتعامل مع كل تقييم موضوعى لسنوات ما كان يُسمى بـ«العهد البائد» كأنها نوع من الخيانة التى تستوجب العقاب.


على الرغم من احترافى للرقص وولعى به، وسعيى الدائم إلى الاجتهاد للتجديد والابتكار، فإن السينما هى أقرب الفنون إلى قلبى، فهى بحق مجمع الفنون. شاهدت مئات الأفلام العربية والأجنبية عبر سنوات عمرى، وتعريف الفيلم الجيد عندى يقترن بالقدرة على الجمع بين متعتى الفرجة والفكر معًا. لا أستطيع أن أحصى عدد المخرجين والممثلين الذين أحبهم فى تاريخ السينما المحلية والعالمية، لكننى أحببت مارلين مونرو كما لم أحب أحدًا، وجوليا روبرتس هى الأعظم والأكثر تأثيرًا من المعاصرات، أما نجوم السينما المصرية فيتصدر القائمة زكى رستم وحسين رياض ومحمود المليجى ومحمود مرسى، ثم نور الشريف وأحمد زكى من أبناء الأجيال التالية. الممثلات الأعظم عندى هن فاتن حمامة وسعاد حسنى ويسرا، ومن الجدد منى زكى ومنة شلبى وهند صبرى، وتحظى المرحومة تحية كاريوكا بمكانة خاصة، لأنها تجمع بين الرقص والتمثيل فى توافق جدير بالإعجاب، ومع احترامى الكامل للزميلات نجوى فؤاد وفيفى عبده ولوسى ودينا، فإن واحدة منهن لا يمكن أن تُقارن بالسيدة تحية. لقد قرأت عشرات الكتب عن السينما، وأشعر بحزن لا أخفيه لأننى لم أحقق فى الأفلام التى قدمتها ما كنت آمله، والأمر فى رأيى مردود إلى طبيعة المناخ المضطرب الذى ظهرت فيه أفلامى.
الموسيقى حبى الثانى بعد السينما، والإحساس بالإيقاع هو جوهر إبداع الراقصة والملمح الأهم فى شخصيتها. بحكم نشأته وإقامته الطويلة فى أوروبا، كان أبى مولعًا بالموسيقى الغربية، ويصل حبه لفاجنر إلى حد الهوس، لكن اهتمامه بالموسيقى العربية لم يغب، والذى أعرفه عن يقين أنه التزم بحضور حفلات كوكب الشرق منذ أوائل الأربعينيات حتى هزيمة ١٩٦٧، فقد امتنع بعدها عن الذهاب إلى الحفلات الشهرية، مكتفيًا بالاستماع إليها عبر جهاز الراديو القديم العتيق الذى كان يعتز به كثيرًا. على الرغم من حبه الأسطورى غير المحدود لأم كلثوم، فإن السيدة ليلى مراد كانت هى الأقرب إلى عقله وروحه. لم يكن يستمع إلى أحد غيرها بعد استشهاد أنور ووفاة أمى، ولا شك أننى ورثت عنه حب الموسيقى والغناء، ووجدت فى الغناء الشعبى ما يستدعى الإعجاب والاهتمام. لا أتفق مع بعض المثقفين الذين يتعالون على أحمد عدوية وحسن الأسمر، وهما من أصحاب الأصوات العذبة. عملت معهما ومع عدد كبير من عمالقة الغناء الشعبى، وقد لا يكون شعبان عبدالرحيم من أصحاب الأصوات الجميلة، لكنه ظاهرة لا ينبغى إهمالها أو إنكار شعبيتها، وتعبير عن التحولات الجذرية فى ثقافة وذائقة المجتمع المصرى فى العقود الأخيرة.
ولدت وعشت طفولتى المبكرة فى الدقى، وسنوات المراهقة والشباب فى المعادى، وأقمت لفترة غير قصيرة فى الزمالك، ثم انتقلت بعد ذلك إلى المهندسين حيث أعيش حاليًا. أستطيع القول إن الطرز المعمارية فى الدقى والمعادى والزمالك ذات تكوين فنى رفيع، والفيلا التى أقيم فيها تنتمى إلى الإطار الجمالى نفسه، فقد كلفت مهندسًا عبقريًا بوضع تصميمها والإشراف على تنفيذها، وهو المرحوم إبراهيم إسحق، لكننى أشعر بالحسرة للتدهور الذى تتحول معه الأحياء القديمة الراقية إلى عشوائيات قبيحة تفتقد الحد الأدنى من التجانس والانسجام. عندما انتقلت للسكنى فى المهندسين، قبل ثلاثين عامًا على وجه التقريب، كان حيًا وديعًا هادئًا قليل الزحام، وسرعان ما تحولت الفيلات الأنيقة والعمارات متوسطة الارتفاع إلى غابة من الأسمنت، تعلو فيها الأبراج وينتشر الضجيج المزعج، ولا تآلف أو تنسيق بين بنايتين متجاورتين. عندما قرأت كتاب «عمارة الفقراء» للمهندس العبقرى حسن فتحى، بالفرنسية أولًا ثم بالعربية، تمنيت أن أعهد إليه بتصميم بيتى، لكننى لم أنل هذا الشرف العظيم لسوء حظى.
لا ينفصل اهتمامى بالعمارة عن تعلقى بالفن التشكيلى، وكم أشعر بالفخر لأن المرحوم أبى كان من أصدقاء الفنان المصرى العالمى محمود سعيد ويقتنى بعض لوحاته، التى أحتفظ بها حتى الآن وأرى فيها ثروة معنوية لا تُقدر بمال. فى زياراتى للعواصم الأوروبية، باريس وروما وفيينا تحديدًا، أحرص على الطواف بالمتاحف ومعارض الفن التشكيلى من مختلف المدارس والاتجاهات، والاستمتاع بالإبداع الفنى الراقى الذى هو الثروة الأعظم للأمم والشعوب. كانت حصة الرسم مفردة مهمة ذات شأن فى سنوات التعليم الابتدائى والإعدادى، وكذلك حصة الموسيقى، فأين هما الآن فى مدارسنا، ولا أستثنى المدارس الخاصة باهظة المصاريف؟. كان تمثال نهضة مصر، للفنان الكبير محمود مختار، ينعشنى عندما أراه مرتين كل يوم خلال سنوات دراستى بجامعة القاهرة، وها أنذا أعيش لكى أقرأ فتاوى غرائبية تحرم النحت وتعتبره نوعًا من الوثنية وعبادة الأصنام!.


عرفت من أمى أن أبى كان يكتب الشعر والقصة القصيرة فى شبابه، ونشر بعض إنتاجه الشعرى والقصصى فى الأربعينيات والخمسينيات، لكننى لم أقرأ له شيئًا، وبحثت طويلًا فى مكتبته العملاقة فلم أجد شيئًا مما كان يكتبه وينشره. تعلقت بالشعر وكنت الأبرز ممن يلقونه فى حفلات المدرسة، وإذا كان الشعر العربى القديم يمثل صعوبة حقيقية فى استيعابه، لما أجد فيه من مفردات مهجورة من ناحية وغلبة المديح والهجاء من ناحية أخرى، فإن الأمر مختلف مع الشعر العربى الحديث، حيث عذوبة شعراء المهجر، والرقة الرومانسية المذهلة لإبراهيم ناجى، والشجن الفلسفى فى شعر صلاح عبدالصبور، والتفرد فى الصور والرؤى عند محمود درويش. هؤلاء هم الأقرب إلى قلبى فى الشعر الحديث المكتوب بالفصحى، وفى العامية أستمتع كثيرًا ببيرم التونسى وفؤاد حداد وصلاح جاهين، أما العظيم لويس أراغون فهو الشاعر الذى أعود إليه كثيرًا، وبخاصة فى قصيدته الفذة التى لا شبيه لها: عيون إلزا.
لى مع المسرح قصة مختلفة، ذلك أننى قد قرأت عشرات المسرحيات العالمية لأعلام وقامات شامخة، شكسبير وموليير وإبسن وآرثر ميلر وتنيسى وليامز وهارولد بنتر وغيرهم، وقرأت بالعربية لتوفيق الحكيم ونعمان عاشور وسعد الدين وهبة وألفريد فرج ومحمود دياب وسعدالله ونوس. حبى للمسرح، قراءة ومشاهدة، من الحقائق الراسخة المستقرة فى حياتى، لكننى رفضت عروضًا كثيرة للتمثيل المسرحى. لا تناقض هنا أو مفارقة تستدعى الدهشة، فأنا أدرك صعوبة المهمة وخطورة المسئولية. المواجهة اليومية للجمهور عبء يفوق طاقتى، ولا أنكر أيضًا أن طبيعة النصوص التى يقدمها المسرح الخاص لا ترقى إلى مستوى طموحى ولا تشجعنى على الإقبال والقبول، أما مسرح الدولة فهو يعانى من مشاكل متراكمة تحول دون قيامه بالدور التنويرى المنشود. لعل الفنان الكبير عادل إمام هو الوحيد الذى كنت أتمنى أن أمثل أمامه، لكن الحلم لم يتحقق، أما الدور الذى كنت أتمنى أن أكون صاحبته فهو الذى قامت به سيدة المسرح سميحة أيوب فى مسرحية «سكة السلامة».
رحلتى مع الثقافة طويلة حافلة بالمحطات المثيرة، ولا بد من الإقرار بأننى مدينة لآلاف الكتب التى أسعدتنى وأمتعتنى وأضافت إلى عمرى أعمارًا. أعيش الآن مرحلة أراود فيها معانقة الهدوء والصفاء والابتعاد عن التوتر، ولذلك أجد فى كتب التصوف ما يؤنس وحدتى ويبدد وحشتى، وكذلك أنهمك فى قراءة كتب فى علم النفس للبحث عن إجابات على الأسئلة الكثيرة التى تراودنى. الإنسان كائن عظيم بقدر ما هو معقد غامض سريع التحولات، لا يسهل عليه أن يستقر ويرضى بالمتاح له من المعارف، وقد نصحنى أستاذى وصديقى عبدالرحيم محسن، الفقيه القانونى والمحامى القدير الذى يلعب فى حياتى دور الأب أو الشقيق الأكبر، أن أهتم بقراءة السير الذاتية للعظماء من صانعى التاريخ، فهو يرى عن حق أن الدروس المستفادة من تجاربهم لا بد أن تكون مفيدة مشبعة، وقد التزمت بنصيحته الثمينة فوجدت نفسى مدفوعة للاحتذاء بهم والتفكير فى كتابة ونشر مذكراتى، ليس لأننى أرى فى تجارب حياتى ما يقترب من عظمة جان جاك روسو وهيلين كيلر وغاندى ونهرو وتشرشل وشارلى شابلن ونيلسون مانديلا، بل لأننى أراهن على التطهير النفسى وإعادة إنتاج وتأمل سنوات العمر.
الثقافة مفهوم معقد مركب يصعب تعريفه والإمساك الصارم بمفاتيحه، وأفكر أحيانًا أن كلمات مثل الحب والألم والفن والثقافة، وغيرها، يمكن الإحساس بها والتعامل معها دون نظر إلى الإمساك بتعريف لن يغير شيئًا من جوهر المفردات التى تشكل نسيج الحياة الإنسانية.