الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

يسألونك عن الدولة المدنية الحديثة "11"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قطعًا، تخضع محاولات بناء «الدولة المدنية الحديثة» لكافة متطلبات الحكم الرشيد؛ إذ لا سبيل إلى تحقيق قيمها ومبادئها فى غياب حكم ديمقراطى حقيقى، بموجبه تتوفر سيادة القانون، وتعلو يد المساءلة والمحاسبة فى وجه الجميع، دون استثناء، فضلًا عن شيوع حرية الرأى والتعبير، وحرية تداول المعلومات، وتعم الشفافية كافة مجالات العمل الوطنى، حتى ما يتعلق بالأمن القومى تتوفر له سُبل خاصة ليخضع، كغيره، إلى ما سبق من قيم مجتمعية. ومن هنا تتحقق وحدة حركة المجتمع باتجاه أهدافه المشروعة نحو بناء صحيح لمفهوم «الدولة المدنية الحديثة».
فى ضوء ما سبق، يمكننا الإشارة بإيجاز إلى حقيقة موقعنا على طريق «الدولة المدنية» من خلال رصد بعض من ملامح الحياة السياسية فى الوطن، تغيب فيها الشفافية، وتتراجع فيها حرية تداول المعلومات، ونواجه بنظرية المؤامرة، الساذجة، كل رأى يخرج عن الإطار الحاكم، دعمًا كاذبًا «للاستقرار»، وزعمًا غافلًا عن ارتقاء مستوى الوعى العام فى المجتمع بفعل الثورة المصرية المجيدة فى يناير ٢٠١١، وموجتها التصحيحية الهادرة فى الثلاثين من يونيو. وعليه أقول:
تصادمًا مع مبادئ الشفافية وحرية تداول المعلومات، السابق الإشارة إلى أهميتها فى «الدولة المدنية الحديثة»، يكاد المجتمع المصرى لا يخلو من «شائعات» وأقاويل بشأن تعديل وزارى وشيك!، وتتسع دوائر التعديل وتضيق، وتطول وتقصر، حسب الاتجاهات السائدة تجاه كل وزير، وحسب ما تسمح به التربيطات على الأرض، ويسعى البعض فى هذه الأثناء إلى إجراء تسويات لحسابات خاصة مع وزير بعينه. واستكمالًا لثقافتنا المجتمعية فى هذا الشأن، دائمًا ما ينفى رئيس الوزراء هذه «المزاعم»، ويؤكد على فكرة «الاستقرار» فى كل الأحوال. لاحظ أن مفهوم «الاستقرار» مرادف أصيل مستوطن فى الدول غير الديمقراطية، بديلًا لمفاهيم التطور ومواكبة المستجدات، بل تداول السلطة، فى المجتمعات التى نجحت بالفعل فى بناء «دولة مدنية حديثة».
الملاحظ أيضًا فى هذا الشأن، أن الشعب لا يدرى، على وجه التحديد، لماذا خرج وزير بعينه، وبقى آخر، ولا لماذا يأتى «فلان» ولا يأتى «علان»؛ ذلك أن «الدولة المدنية الحديثة»، التى لم نبلغها بعد، هى فقط الكفيلة بإنتاج معايير واضحة ومعتبرة ومتفق عليها فى كافة الأنظمة السياسية الديمقراطية، فى اختيار كافة المسئولين، لا أقول الوزير فقط، بل كل مسئول، بل كل وظيفة لها معاييرها الواضحة والصارمة، والتى تستند إلى صحيح القانون؛ إذ لا مزايدات، ولا تسوية حسابات، تستقوى على أدوات رشادة الحكم فى «الدولة المدنية الحديثة»، ولا رأى عام يمكن أن تخال عليه تشويهات دعائية تلقى جزافًا، ولا تربيطات خفية يعجز القانون عن مجابهتها لو أرادت الالتفاف على كل منطق سياسى مقبول. على هذا النحو تعيش مصر الآن حالة، لطالما عشناها، من «الأقاويل»، غير المدعومة بمعلومات مدققة، سيعقبها قطعًا اعتراف من المسئول، الذى سبق وأنكر، ليعلن عن موعد التعديل وسعته ومداه!. وفى ذلك يقولون فى أدبياتنا الراكدة إن السرية لازمة لإنجاح المفاوضات مع المرشحين!، وأن المفاوضات كانت تتم فى أماكن غير معلومة على وجه الدقة!، خارج مجلس الوزراء!، ثم إن الأمر كان يتطلب مراجعات أمنية للشخصيات المرشحة!، ثم تدلنا الدروس السابقة، كم من هؤلاء الآن خلف القضبان، وكيف أن الشخصيات المختارة أتت بفعل نفس المنهج السابق فى التفكير؛ ومن ثم لا تدرى سببًا حقيقيًا للتغيير الشكلى الذى يتم، حيث تبقى السياسات كما هى، رتيبة عقيمة. ولا تفصح الدولة عن معاييرها فى الاختيار، ولا عن أوجه القصور التى ستعالجها الوجوه الجديدة. ليبقى الحال على ما هو عليه، فى انتظار تراكم ديمقراطى يسمح يومًا باختيار حكومة سياسية منتخبة بالفعل من الشعب، لا مجرد موظفين، مهما كبرت خبراتهم، إلا أنهم ليسوا على صلة حقيقية بالرأى العام، ولا ظهير سياسى لهم، ولا أيديولوجية سياسية بعينها يمكن على أساسها توقع مسارات عمل الوزارة الجديدة، ومنهجها فى العمل. وبعيدًا عن حديث التعديل الوزارى، الذى امتد هذه المرة ليشمل رئيس الوزراء شخصيًا، لنا وقفة سريعة مع الإجراءات المؤلمة التى توعدنا بها رئيس الوزراء المهندس شريف إسماعيل وهو يمهد لكثير من أوجه المعاناة التى تنتظر الشعب جراء عملية الاصلاح الاقتصادى الجارية. والواقع أنه ليس من شك أن الوطن اليوم يسدد فواتير قديمة مرت عليها عقود طويلة لم تجد نظامًا حاكمًا شجاعًا يواجه بحسم قضايانا الأساسية. غير أن الأمر ليس على هذا النحو من البساطة؛ ذلك أن فشلًا متتابعًا عانت منه مصر فى السنوات الأخيرة، يعلوه الفشل فى مكافحة الفساد المستشرى فى البلاد، ويكسوه غياب رؤية سياسية واضحة ومحددة، يمكن أن تقود جهود التنمية؛ ذلك أن مفهوم «التنمية الشاملة» بات هو المنطق الدارج فى كل جهود حقيقية تسعى بهمة واجتهاد نحو بناء «الدولة المدنية الحديثة». وتدلنا الدروس التاريخية المقارنة أن لمفهوم «التنمية الشاملة»، مضامين سياسية واقتصادية واجتماعية، كلها تدفع بالمجتمع إلى نهضة حقيقية فى كافة محاور العمل الوطني؛ ومن ثم، سقطت بالفعل نظريات رديئة لطالما أجلت التنمية السياسية بدافع، رخو هش، يدعى أن التنمية الاقتصادية أجدر بالإسراع بها، متجاهلًا أن فى ذلك الاتجاه مضت تجارب قاسية مريرة، حظينا بواحدة منها منذ ثورة ١٩٥٢، حين ألغينا العملية السياسية، واتجهنا نبنى دولة فارغة من المضمون السياسى، فكانت النتيجة التى نراها فى مرآتنا اليوم نتاجاً حقيقى لما آلت إليه تجربة طويلة، كانت جديرة بأن تكون قد وصلت بالفعل إلى ترسيخ «الدولة المدنية الحديثة» التى ما زلنا نتطلع إليها بشغف وسط أجواء ضبابية مرتبكة.
من هنا، فإن معالجات اقتصادية، مهما لاقت من دعم خارجى، سواء من المؤسسات الدولية، أو من الدولة المشاركة لنا فى جهود التنمية، كلها لا يمكن أن تسفر عن شىء يُذكر ما لم يواكبها جهود تنموية سياسية واجتماعية، لتكتمل منظومة مفهوم «التنمية الشاملة»، وإذا كانت المساعدات تأتينا لحل مشكلاتنا الاقتصادية، فإن مشكلاتنا السياسية لا بديل عن مواجهتها فى الداخل بإرادة سياسية حقيقية، وبعقول وطنية خالصة، بها ننتصر لقيم الثورة ومبادئها، فنعلى من شأن التعددية السياسية والحزبية الواردة نصًا فى دستور ٢٠١٤، ونرفع من منسوب حرية الرأى والتعبير، لتنساب حركة المجتمع يسيرة نحو إرساء قيم سيادة القانون، والشفافية، وحرية تداول المعلومات، وتحكمنا سُبل صارمة للمساءلة والمحاسبة. وفى الإطار ذاته ننتظر أن تنمو قناعاتنا بأهمية المجتمع المدنى، ودوره المشروع والمستحق فى تحقيق النهضة التنمية الشاملة، فتجد الدولة حلولًا ناجعة لكافة المعوقات التى تقف أمام منظمات ومؤسسات المجتمع المدنى، وتفك إشكالياتها؛ ذلك أن «الدولة المدنية الحديثة» تنهض بتضافر الجهود الرسمية والجهود الشعبية التى يمثلها المجتمع المدنى، باعتبار الأخير وجه المشاركة الشعبية فى إدارة شئون الدولة، وهو من السمات اللازمة لبناء «الدولة المدنية الحديثة» التى ننشدها جميعًا، ونخسر رهانها ما لم نعتنق جميعًا قيم ومبادئ الحكم الرشيد. وإلى الأسبوع المقبل بإذن الله.