الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

.. ودرس معاصر!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تناولت في المقال الفائت بعنوان "درس تاريخي"، النتائج المدمرة والكوارث المفزعة التي حاقت بالمجتمع المصري، ولا تزال، جرّاء التوجه الخطير لحكم الرئيس الأسبق أنور السادات (الذي أسمى نفسه "الرئيس المؤمن"، ووصف دولته بـ"دولة العلم والإيمان"!)، حينما قام بإطلاق "عفريت" العنف والإرهاب، تحت مسمّى "الجماعات الدينية"، لمواجهة خصوم النظام من الاشتراكيين والناصريين، في الجامعة والمجتمع، وهي آثار إجرامية ما زلنا نعاني من توابعها الدامية حتى الآن!
وأحب في هذا المقال أن أقارن ذلك الدرس التاريخي الذي يتعلق بالماضي، بآخر حديث يرتبط بالمستقبل.
فالمقارنة هنا مفيدة، وذات دلالات هامة، وتوضخ بجلاء مدى حراجة الوضع الذي تعيشه بلادنا، وحجم الجهد المطلوب أن نبذله، لتعويض الفارق الكبير بيننا وبين من كنا حتى الأمس القريب نتقدمهم بمراحل، الأمر الذي هيأ لنا أن نلعب وسطهم دور الريادة، وكفل لنا بينهم موقع القيادة، حتى عقود قليلة مضت، قبل أن تتعثر خطانا، وتتراجع قدراتنا، على نحو ما هو واضح ومعروف!
وهذا الدرس مستمد من ملاحظات شخصية، ناتجة عن زيارة أخيرة إلى "دولة الإمارات العربية المتحدة"، ضمن وفد "الدبلوماسية الشعبية"، الذي توجّه إليها وضمَّ مجموعة من السياسيين والمفكرين، تصادف وجودهم مع وفد من الفنانين المصريين، ذهبوا لشكر شعب وقيادة دولة "الإمارات" على موقفهما، السياسي والاقتصادي الداعم لمصر، ولتطمئنهما على استقرار الأوضاع، وتجاوز المحنة، وأن المجتمع المصري قطع شوطًا ملحوظًا في مسيرة تعافيه من آثار العملية الجراحية العبقرية، التي استهدفت إزالة سرطان جماعة "الإخوان" وحلفائها من جماعات الإرهاب، وإبراء الجسد المصري من سقمها ومخاطرها، وأن أيادي مصر ممدودة، لمشاركة أهل الإمارات، المحبين لمصر، في مشروعات اقتصادية كبرى، تعود على الطرفين بالفوز والفائدة.
ومن "درس الإمارات" نستخلص ثلاث إشارات أساسية:
الإشارة الأولى: القيادة الشابّة
معظم من قابلناهم من مسئولي الدولة، ومن قيادييها في شتى المجالات: وزراء، مديرين، رجال أعمال وصُنّاع قرار سياسي واقتصادي.. إلخ، جميعهم في سن الشباب. أربعون عامًا وما دون. لم يصنعوا ثورتين، مثلنا، العنصر الرئيسى فيهما الشباب، ومع ذلك فالشباب هو السمة الرئيسية في "الإمارات". الدولة شابّة، فعمرها لا يتجاوز الأربعين إلا بعامين، ولذا فللشباب فيها وجودٌ ملحوظ، وإيقاع الحركة فيها سريع، والتطور -كإيقاع الشباب وسرعته وحركته- يسابق الزمن!
الإشارة الثانية: الانضباط الصارم
أول ما يلفت النظر في شوارع هذه الدولة هو الانضباط الصارم الذي يلتزم به الجميع، مواطنون وأجانب.
النظام يُطبّق بدقة على الجميع دون استثناء. السرعات المقررة لكل أنواع السيارات والحافلات محترمة، وإشارات المرور مُلزمة. لا تهاون أو تفريط في احترام النظام لعابر سبيل أو مسئول كبير أو ضيف رسمي للدولة. والأهم أن هذا كله يتم دون أن نرى في الشوارع جنديا واحدا، أو "سيادة اللواء" في الميادين والتقاطعات ومطالع الكباري، كما يحدث عندنا! احترام النظام، حسب التعبير الذي يتداوله متخصصو الكمبيوتر: "BUILT IN"، أي مزروع داخل الـSYSTEM""، يمارس دوره بشكل طبيعي، بلا قسر أو افتعال أو إكراه. إنها مسألة وعي وإدراك تم بثهّ من خلال كل مؤسسات التربية والتعليم والتثقيف في المجتمع، وأهمها البيت والمدرسة والمسجد ووسائل الإعلام.
الإشارة الثالثة: الرؤية المبدعة
لم يكتف قادة "الإمارات" بالركون إلى ما فاضت به الطبيعة عليهم من خير، ممثلًا في ثروة البترول، التي تضاعفت عوائدها في السنوات الأخيرة حتى عمّت جميع مواطنيها، وإنما احتاطوا ليوم تنضب فيه مصادرهم البترولية وتحركوا قبل الزمان بزمان، دون قيود أو موانع أو معوقات، في كل الاتجاهات، لصنع فرص جديدة، بهدف مضاعفة الدخل، وخلق البدائل!
أنشأوا جامعة علمية للتكنولوجيا المتقدمة على غرار جامعات القرن الجديد العلمية في العالم الحديث، تُدار بالطاقة الشمسية وتتحرك سياراتها، كتلك التي نراها في أفلام الخيال العلمي، أوتوماتيكيًّا، بأجهزة الكمبيوتر، دون سائق أو "كمسري"، أو عوادم تعمي العيون وتشقي الأفئدة!
ومنحوا شركات الكمبيوتر والصناعات المتطورة العالمية حوافز مُشَجِّعة حتى وجدت بقوة على أراضي الدولة، ولكي تنقل نتاجات معارفها المتقدمة دون بيروقراطية أو تعقيدات. والمدهش أن مُعظم العلماء الأساسيين في هذه الجامعة وفي كثير من هذه المشاريع هم مصريون لحمًا ودمًا!
وكمثال على هذا التفكير المبدع، غير التقليدي، مسابقات سيارات السرعة الفائقة: "الفورمولا وان"، التي تجذب الملايين في العالم، وهي من أغلى الرياضات، ومرتادوها من الطبقات الثرية وتذاكرها من فئتين: 3 آلاف و7 آلاف دولار، فضلًا عما يصرفه سائح هذه النوعية المميزة من رياضات النخب بالغة الثراء، على الإقامة والانتقال والتبضع... إلخ، مما يُدر دخلًا هائلًا، خصوصا إذا أضفنا إليه عوائد الإعلانات والبث التليفزيوني وغير ذلك من مصادر للكسب، على قمتها العوائد الإيجابية على سمعة الدولة ذاتها!
وقد أقدمت دولة "الإمارات" على إنشاء مدينة لهذه الرياضة قرب شواطئ الخليج. صرفت مليارات الدولارات في تهيئتها مرّة، لتعود عليها مليارات الدولارات، دخلًا حُرًّا، كل عام دون انقطاع، إلى أن يشاء الله!
هذه إشارات ثلاث. هي في مجملها نقيض للإشارات المستخلصة من درس التجاء الرئيس الأسبق، "أنور السادات"، إلى استخدام سلاح الدين ضد خصومه، فقتل نفسه، وأضرّ وطنه!
نذكرها حتى نتعلم منها، وهي لا تعني أن "الإمارات" دولة مثالية، أو أنها بلا مشكلات، أو أن نظامها السياسي والاقتصادي هو الأمثل، ولكنها دروس ينبغي أن نتعلم منها، وأن نقرأها بإمعان حتى نتقدم، ولا عيب في أن نبحث عن الدرس في أي اتجاه، فالحكمة ضالة المؤمن، كما قيل، يجتهد في البحث عنها والاستفادة منها!
إشارات للبناء، في مواجهة إشارات للهدم. بعض دروس من دولة صغيرة فتية، مهداة إلى دولة السبعة آلاف عام!