رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

غالي شكري.. مرة أخرى "1"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ونعود إلى غالى شكرى فى كتابة جديدة، أتت فى الزمن الصعب حيث التأسلم يتمدد لتمتلئ به عقول لم تكن تعرفه من قبل، وحيث المدرسة وأجهزة الإعلام تفوح منها رائحة التعصب المتأسلم.
أتت هذه الكتابة فى كتاب شديد الصراحة عنوانه «أقنعة الإرهاب - البحث عن علمانية جديدة»، ونشرت فصول قليلة منه فى كتيب بعنوان «العلمانية الملعونة». هذا الكتيب هو واحد من الجهود الخجولة التى تبنتها الهيئة المصرية العامة للكتاب فى ذلك الحين، ومنحتها عنوان «المواجهة» وأعلنت على ظهر الغلاف رؤيتها فقالت: «بلغت مؤامرات التطرف والإرهاب فى مصر معدلات غير مسبوقة خلال السنة الأخيرة (١٩٩٢) ولم تعد هذه الظاهرة مجرد تهديد للدولة ونظام الحكم، بل أصبحت تهدد المجتمع المصرى كله، سواء فى بنيته الداخلية أو فى اقتصاده أو أمنه الاجتماعى والسياسى ومكتسباته الثقافية والفكرية».. ثم «ولا تقل الحرب التى يشنها المتطرفون والإرهابيون ضراوة عن أى حرب خاضتها مصر مع أعدائها الخارجيين فى هذا القرن، بل ربما كانت هذه الحرب أشد ضراوة، لأن أحد أطرافها هم أبناء لنا أعماهم التطرف فاختاروا العنف سبيلًا لفرض إرادتهم وزعزعة استقرار الوطن واستهدف عنفهم أبناء لنا فى أجهزة الأمن وإخوة لنا من المدنيين المسالمين العزل مسلمين وأقباطًا، إن ما تمر به مصر الآن هو مأساة حقيقية إنسانية وثقافية وحضارية، وكارثة اقتصادية وسياسية، ولذلك أصبح من الضرورى أن ينتفض المثقفون المصريون ومؤسسات المجتمع المدنى، للوقوف فى وجه التطرف والإرهاب لمحاصرتهما واحتوائهما، تمهيدًا لاقتلاعهما تمامًا». وقد تعمدت أن أورد ما جاء من الناشر كاملا، وكان ذلك فى عام ١٩٩٣ أى منذ ٢٢ عامًا. اثنان وعشرون عامًا، ولم تزل هذه الكلمات صالحة للاستعمال ولم يزل الإرهاب المتأسلم يهدد الجميع، ولم تزل مصر تنزف دمًا وتعانى وتحزن، ولم يزل مثقفونا غير قادرين على التوحد فى مواجهة التأسلم. هذه الكتابة شهادة على عصر لم يزل فيه التخلف والتردد وإمساك العصا من المنتصف، والخوف من تقوّلات الخصوم وادعاءاتهم هى معايير العصر. ونعود بعد ذلك إلى ما كتبه غالى شكرى فى هذا الزمن الصعب ولنسأل أنفسنا أين ذهبت هذه الكلمات؟. ويبدأ غالى برسالتين متخيلتين واحدة تخيل فيها فرج فودة وهو يجسد دماءه فى كلمات فيقول «من الخلف أغمدت رصاصتك ولكنى رأيتك. رأيت عينيك المفتوحتين على آخرهما.. ورأيت فمك المزموم الشفتين. أنت لا تعرفني. وربما لم تقرأ لى حرفًا ولكنى أعرفك» ثم «كان أبوك هو الذى يرسلك إلى العم جرجس لتأتيه بما لذ وطاب من الجبن والزيتون، وأمك تحملك كعك العيد إلى الست جميانة وكنت وإخوتك تلعبون فى الحارة مع إبراهيم وسعدية وبطرس وعبدالله وعبدالسيد .. كانت الحارة تبدأ بالمسجد العتيق وتنتهى بالكنيسة التى تصطف بجوارها مقاعد عم على صاحب المقهي. وذات يوم وأنت عائد من المدرسة قابلت بطرس فلم تصافحه كعادتك. وقلت لوالدتك لن ألعب معه بعد الآن، هو وأهله أجمعين سيذهبون إلى النار، هكذا قال «الأستاذ» وهكذا قرأت فى كتاب المحفوظات. واستطال هذا الكلام عامًا بعد عام. كان زملاؤك الأقباط يحفظون آيات من القرآن مثلك ويذهبون كل أسبوع إلى مدارس الأحد. وذات يوم أنت لا تنساه قال الأب إنه سمع وشاهد فى التليفزيون كلامًا قريبًا مما سبق أن سمعته فى المدرسة عن الكفرة والمشركين وأعداء الله. وطلب الأب من أمك أن تزور الست جميانة فى السر وليس العلن، وطلب من أختيك أن ترتديا الحجاب. وذات يوم آخر رأيت الكنيسة فى آخر الحارة وهى تحترق، وقد ازدحم الأهالى وهم يطفئون النيران، عم جابر والحاج محمود والشيخ صابر والعم جورج والمقدس عبد السيد يطفئون النيران، وأنت قابلت فى السر الشاب الأسمر الطويل، وقال لك «إياك أن تحزن مما رأيت فهذا ما هو إلا بداية النهاية للكفر، وإياك أن تظن أن الكفر مقصور على غير المسلمين، فالكفر يملأ الدنيا والمسلمون مثل الآخرين يعيشون الجاهلية وإن تلبسوا مسوح الإسلام». وقال لك «أنت الآن فقط تولد مسلمًا، دعك هذه اللحظة من الكفار حتى لو كانوا من أهل بيتك. إنهم أعداؤك، أعداؤنا، أعداء الله ورسوله. لا تنظر وراءك. اترك كل ما لك فى الدنيا واتبعني. أصغيت إلى الصوت فى خشوع المتبتلين. وفقد الجميع عنوانك منذ ذلك الحين. قيل لك إن لا ولادة بغير دم. نحن أبوك وأمك وإخوتك لا عائلة لك سوانا. كنت ترتعد فى داخلك لكنك كسوت وجهك بقناع من خيوط الطاعة والصراحة وأنت تقسم على تنفيذ المهمة المقدسة. هذا كل ما وعيته وأنت تتلمس المدفع الرشاش وحين وقفت تنتظرنى لم تفكر، تعطلت كل الحواس ماعدا العين والساعد الممسك بالمدفع. أنت مثل المدفع مجرد قطعة الحديد. ضغطت عليك الأعصاب بأسئلة.. لماذا؟ ماذا سيحدث لأبى وأمى ومصر كلها عندما يفترشها الدم. كدت تشعر أنك فى مصيدة. أنت لا تري. لا تدرك أن غسيلًا مدمرًا للدماغ يزهق روحك، ولكن الرصاصة الأولى انطلقت ولم يتوقف الرشاش ورأيت وجهك فى بحيرة دمى يحملق مذهولًا، أم رحت أنا فى غيبوبتى وأنت فى غيبوبتك والآخرون فى غيبوبتهم».
ونواصل مع غالى شكري.