الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

كراهية تحت المطر "١"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الفصل الأول: قــدر الفتى المليونير!
القاهرة صيف عام ١٩٢٣.
مصر يحكمها الملك فؤاد.. تحت ظل احتلال بريطانيا العظمى.
المصريون فى الوادى معظمهم من الفلاحين.. الذين يزرعون حول النيل فى آلاف من القرى والنجوع والكفور.. يعيشون حياة المزارعين البسطاء..
لكن الحياة فى العاصمة تختلف.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.. تشهد القاهرة غزواً من الأوروبيين من مختلف بلدان أوروبا.. نزحوا إلى عاصمة الشرق بحثاً عن فرص حياة جديدة.. رجال ونساء جاءوا على متن سفن الطموح والمغامرة.
البعض جاء ينبش فى الآثار بحثاً عن كنوز الفراعنة مثل لورد كارنافون الذى اكتشفت بعثته كنوز توت عنج آمون.. وتجار من كل الجنسيات والديانات حتى اليهودية.. مع أحلامهم مشروعات صغيرة وكبيرة.. وأصبح لهم صيت وشهرة فى عالم المال والأعمال والثراء والأثرياء.
ومن كل عواصم أوروبا انهالت على مصر وفود النساء الغربيات.. من أول الراهبات المتبتلات إلى راقصات الفرق الأجنبية.. اللائى يحيين ليالى عماد الدين والكيت كات وفنادق القاهرة وصالاتها.
وفتيات هوى ومغامرات حسناوات.. باحثات فى جيوب عشاق الهوى والغرام.. متخصصات فى سرقة القلوب.. واصطياد رجال الشرق.. المتعطشين بالجهل إلى الجمال الغربى.. وهم من أبناء الشرق.. والغرب والشرق ليسا أبداً يلتقيان.
***
حفل ساهر راقص فى فيلا المليونير اليهودى ورجل البنوك «الخواجة موصيرى».
منذ هبط المساء والسيارات الفاخرة تتوقف أمام سلالم الفيلا الرئيسية.. يهبط منها زرافات من النساء والرجال فى ملابس السهرة.. جاءوا لحضور هذا الحفل.. من الحفلات المتكررة التى تعود «الخواجة موصيرى» أن يقيمها فى قصره كل حين.. ويحضرها شتات غريب من الجنسيات وأنواع البشر المختلفة.
ولأن لكل حفل نجومه.. فقد أحاطت الأنظار منذ البداية بفتى أنيق للغاية فى العشرينيات من عمره.. هبط من سيارة «بنتلى» أحدث طراز.. ومضى إلى الداخل متبختراً فى ملابسه الفاخرة.. وخلفه يعدو شاب مصرى آخر فى مثل عمره تقريباً.. يمشى مثل تابع ذليل وهو فى الحقيقة سكرتيره الشخصى.. أما الشاب فقد كان على كامل فهمى.. وسار وسط الحضور فى خيلاء وأنفه مرفوعة نحو السماء بعد أن تعرف جميع الذين تطلعوا إليه إلى حقيقة شخصه وشهرته.
كان معظم الأوروبيين فى القاهرة يعرفونه باسم «البرنس على».. رغم أنه لم يكن من الأسرة الحاكمة.. لكن لشدة ثرائه.. وطريقته الأرستقراطية فى الحياة وحب العيش على الطريقة الأوروبية.. هذا غير الإسراف والبذخ اللذين أحاطا باسمه وسمعته.
أما المصريون فقد كانت قلة قليلة منهم هم الذين يعرفون من هو على كامل فهمى.. هذا الشاب المليونير الذى لم يتعد العشرين من عمره.
فى تلك الأيام كان حديث المجتمعات فى مصر.. لا يخلو من ترديد الحكايات والشائعات والنوادر عن أثرياء مصر.. وعلى رأسهم الفتى المليونير على كامل فهمى.. الذى أنفق مليون جنيه فى أربع سنوات فقط.. وكان هذا المليون فى ذلك الوقت.. يساوى مائتى مليون فى أيامنا هذه!
كان الناس يتحدثون ويثرثرون.. ويقولون إن هذا الفتى الذى يناديه أصدقاؤه من حاشيته والمنتفعين به باسم «أمير الشباب»!
***
كانت مجلة «اللطائف المصرية المصورة» قد كتبت موضوعاً عنوانه «من هو على كامل فهمى»؟ تقول: «إن فى حياة هذا الشاب عبرة.. أربع سنوات أنفق فيها نحو مليون جنيه.. ووقف العامة والخاصة ينظرون إلى إسرافه. آسفين على ضياع كل تلك الألوف المؤلفة.. فى غير فائدة للبلاد وأهلها».
لقد كان والده المرحوم على فهمى باشا شديد التقتير على ذويه.. وكان الابن تلميذاً فى مدرسة المبتديان.. ولما توفى الأب عن ثروة طائلة.. خرج الابن من المدرسة وعمره ٢٨ سنة تقريباً.. وبقى زمناً وهو محجور عليه.
والتف حوله فريق ممن يعرفون سر ثروته المنتظرة.. وسعوا سعياً حثيثاً لرفع الحجر عنه.. ونال المحامى الذى تولى رفع هذا الحجر ثلاثة آلاف جنيه أتعاباً.. وعقد براتب ثلاثة آلاف جنيه فى السنة لمدة عشر سنوات!
وهكذا بين ليلة وضحاها.. تسلم الوريث على كامل فهمى ثروة والده الراحل الطائلة.. وانطلق يعيش حياة أصحاب الملايين.
وعندما توظف زميله فى المدرسة «سعيد أفندى» كاتبا فى الجمعية التشريعية براتب ثمانية جنيهات فى الشهر.. ظل يتقرب منه.. يصادقه وينافقه.. ولم يتركه حتى جعله زميل الدراسة سكرتيراً خاصاً له.. براتب ستين جنيهاً فى الشهر.. لكن الحقيقة أنه فى نهاية كل شهر.. كان يدخل جيبه مبلغ لا يقل عن خمسمائة جنيه مصرى.. يحصل عليها من خلال عمله ومكانه كسكرتير للوريث المليونير «البرنس على»!
***
ومضت مجلة «اللطائف المصورة» ترسم صورة للشاب المليونير على كامل فهمى قائلة: كان إذا دخل فندقاً أو حانة لتناول كأس ويسكى.. يدفع بقشيشاً للجارسونات يتراوح بين خمسة جنيهات وعشرين جنيها.
واشترى على كامل فهمى الأرض التى بنى عليها السرايا الخاصة بمبلغ ١٤ ألف جنيه.. وهى لا تساوى أربعة آلاف.. وكلفته مائة ألف جنيه وهى لا تتكلف أكثر من عشرين ألفا!
وذات يوم شاهد فى أحد معارض السيارات فى باريس سيارة ثمنها ثلاثة آلاف جنيه.. ورفض أصحاب معرض السيارات أن يسلموها إليه إلا بعد انتهاء المعرض.. لكنه تشبث بالسيارة ودفع لهم ثمانية آلاف.. وخرج من المعرض وهو يقود سيارته الجديدة!
واشترى على كامل فهمى زورقاً كهربائياً حديثاً.. لكن تبين أنه لا يصلح لنهر النيل لسرعة حركته.. فلم يستعمله.. ومهدت له حاشيته إنشاء صحيفة يومية.. لينتفع بها أحدهم.. لكن اللعبة لم تتم!
وأخذت «اللطائف المصورة» تعدد صور إسراف وحمق الشاب المليونير قائلة: لقد دفع ثمانية آلاف جنيهات سمسرة فى صفقة سجاد.. وكانت له عشيقة يدفع لها راتباً شهرياً ألف جنيه!
ومع جهله بآداب المجالس ومحادثة أهل الطبقة العالية.. يظن ذاته كبيراً.. وكان يجمع كل ما تقوله عنه الصحف الساقطة فى «ألبوم ثمين»!
تلك كانت صورة أخرى للشاب الجالس فى عظمة إلى مقعد ذهبى فى صالون قصر «سير بوصبرى» التاجر اليهودى المليونير.. والأنظار تحيط به من كل صوب.. لكن أنظاره هو توقفت فى لحظة.. على الشقراء الحسناء الأوروبية التى دخلت الصالون لتوها.. فتغير الحال وارتفعت همهمات الإعجاب والانبهار بها.. كأنها حورية شقراء قادمة من الجنة!
لم تكن نظراته التى اشتعلت بالفضول والوله والذهول قد غادرت الشقراء الحسناء والتى التف حولها فى ثوان معظم الرجال فى الحفل!
استدار الفتى برأسه إلى الخلف قليلاً.. ليقترب منه فى الحال الشاب المنافق الذى كان يمشى خلفه كالظل.. منذ دخل الحفل.
وهمس له: سعيد أفندى.. تعرف مين دى!
أحنى سكرتيره الخاص رأسه أكثر.. وهمس فى أذنه: أعرف يا برنس أعرف يا أمير الشباب..
قاطعه الفتى على كامل فهمى فى تبرم: بسرعة يا حمار من هى؟
ابتسم «سعيد أفندى» ابتسامة ذات مغزى ورد على مولاه وهو يضغط على حروف كلماته قائلاً: «إنها موعدك مع القدر.. يا برنس»!