الجمعة 07 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

"البوابة" تنشر "الأحلام الأخيرة" لـ"نجيب محفوظ" بعد 9 سنوات من النوم

نجيب محفوظ يعود من جديد

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

دخل الروائى عامه التاسع من حياته الجديدة، فشل في الهروب من صحبة أبطال رواياته وقصصه وملاحمه الشعبية.

عاش «نجيب» 9 أعوام من الحقيقة، وفى الحقيقة، ولا عجب في أن يكتشف له الآخرون أحلامًا جديدة تضاف إلى سجله، وتاريخنا، ولعمر البشر، وتاريخهم، فالرجل لا يكتب أحلامه الخاصة، ولكنه يكتبنا جميعًا.

صدر مؤخرًا الجزء الثانى من «أحلام فترة النقاهة» يحمل عنوان «الأحلام الأخيرة»، يضم 250 حلمًا جديدا، مكتوبة قبل 10 سنوات أو أكثر، كما أكدت الدار المسئولة عن طبع أعماله، لكنها لا تزال تكتبنا، وتتحدث عنّا جميعًا.. لقد تجاوزت فترتها، وتجاوزت الفترة التي نعيشها الآن أيضًا.

ولماذا لا نشكك في أنها أحلام نجيب محفوظ؟

باب التشكيك مفتوح، ربما تكون منسوبة إليه دون أن يكتبها، لكن سوء النية لا يمكن أن يعمى القلوب عن أنّ الأحلام الجديدة جميلة، ومتزنة، وفلسفية، وإنسانية عظيمة، تقول عنها الكاتبة سناء البيسى في مقدمة «الأحلام الأخيرة»:

«فجأة يظهر الكنز، تتحرر الخبيئة من قيدها، ينقشع الغَمام، يخرج المارد من القمقم، تنزاح الأستار عما خبا عنه ضوء النهار، لسنوات طوال، يعتذر جوهر الأدب عن تغيبه، يحتل اليقين موقع الارتياب، تكشف المصادفة عن المستخبى، تسع سنوات تأتى بعدها كريمتا صاحب نوبل (فاطمة وأم كلثوم) لتعيدا ترتيب أوراق الأب الكريم المكرَّم بعد وفاة الأم الفاضلة، فتكتشفا الثروة الأدبية التي لا تقدر بمال، أحلامًا جديدة بالمئات لم تنشر من قبل».

وربما إذا بحثت فاطمة مرة أخرى، أو فتّشت أم كلثوم، لوجدت كنزًا جديدًا.

الرجل كان يكتب بدأب، يعمل لمشروع أدبى ضخم، وليس لصناعة «أقاصيص» أو أقصوصات يقتات بها كسرة خبز من دور النشر تسدّ جوعه، فهو دائم القول:

«أحيانا أنتهى من قصة قصيرة، وأحيانا أخرى أجلس الساعات الثلاث والقلم في يدى ولا أكتب كلمة واحدة، والموقف يتكرر كثيرا، لكننى لا أبرح مكانى، فأنا موظف مهنتى الكتابة مثل أي موظف في مكان عمله لا يستطيع مغادرته سواء كان هناك عمل أم لا. وحى الكتابة أصبح يعرف مواعيدى، وأننى أنتظره في هذه الأوقات، فهل يصح أن يأتى ولا يجدنى؟».

هل نزيد؟

بعد صدور الجزء الأول من «أحلام فترة النقاهة»، كانت اليد مرتعشة وعاجزة عن احتواء القلم، وخط يده مرتبكًا -من أثر الإصابة بالضربة الغادرة- سأله كثيرون: «هل تؤلف الأحلام؟»، فقال: «لم أؤلف أي حلم، هذه أحلامى ولكن بعد تحويرها، لمَّا (أنام وأصحى) من غير حلم أعتبرها ليلة ضائعة».

ويسألونه أيضًا: «هل هذه الأحلام هروب من الواقع؟»، فكان يرد ساخرًا: «وهو فيه واقع؟».

تحمل إجابات نجيب محفوظ شيئًا من فلسفته الخاصة بعيدًا عن رواياته وأبطال ملاحمه الشعبية، وشيئًا مما نراه ولا نريد أن نصرِّح به.

200

وجدتنى في حالة تأهب للصراع مع عدو شرس، وتاقت نفسى إلى شىء من الراحة فصعدت إلى الدور الأعلى، حيث رأيت محمد على الكبير يتلقى الأنباء وينتفخ عظمه، ولكنه جن جنونا.

201

رأيتنى أذهب إلى مسكن صديقى المرحوم «أ» ودعوته للذهاب معى إلى القهوة، فاعتذر، لأن اليوم ستُزوج أخته زينب، فذهبت إلى المقهى وأخبرتهم، وكنا نتعجب لشدة قبح زينب، وإذا بنا نرى موكب العروس قادما، وهى محاطة بالنسوة والجميع متشحات بالسواد من الرءوس إلى الأقدام ويسرن بخطوات منتظمة عسكرية.

202

وجدتنى في بيت ريفى أغوص في الظلمة والصمت، ولا صوت إلا نباح كلبتى الجميلة المتقطع، وإذا بطلق ناري يخترق الليل والصمت، فذهب صاحبى، وبعد قليل رجع ليقول بصوت أسيف: قتلوا كلبتك الجميلة، فانتابنى حزن لحد البكاء وقلت: أهم لصوص؟ فأجاب: أو قوم يعبثون.

203

وجدتنى في مكان غريب يبعث منظره الأسى، وإذا بحبيبتى «ب» قادمة مكللة بشيخوختها، فتولانى شعور كئيب بأننى لن أراها مرة أخرى.

204

رأيتنى أتجاوز الأربعين وأداعب وردة بيضاء وهى تستجيب لعواطفى، بل وتشجعنى، ولكننى لفارق السن أتردد وأتمادى في التردد حتى تهجرنى وحيدا مع الزمن.

205

رأيتنى أدرس القانون إكراما لأبى وأذوب في الأنغام مرضاة لروحى، وعند ذروة الاختيار تناهى بى العذاب، ولكن الروح انتصرت في الختام.

206

رأيتنى في بهو واسع أنيق يجمع في جانب منه الأهل والأصدقاء، وفى الجانب الآخر يفتح باب وتخرج منه حبيبتى «ب» وهى تضحك ويتبعها والدها، فنسيت وقارى وفتحت ذراعى وفتح المأذون الدفتر فشملت الفرحة الجميع، وحضرت أمى فباركت العروس وأحرقت البخور.

207

رأيتنى أسير في شارع طويل، وفى بيت على اليسار فتحت نافذة، ولاح فيها وجه امرأة سرعان ما تذكرتها على الرغم من أننى لم أرها منذ خمسين سنة، وأن جمالها اختفى وراء ستار كثيف من المرض، ولما استيقظت في اليوم الثانى وجدت الحلم باقيا في ذاكرتى، فعجبت ورحت أتصفح جريدة الصباح، فقرأت نعيها في صفحة الوفيات، فازدت عجبا واعترانى حزن شديد وتساءلت: ترى أينا زار الآخر في ساعة الوداع؟

208

وجدتنى في مكتبى تزورونى السيدة «س» لتسلم علىَّ قبل رحيلها لإحدى البلاد العربية للعمل، ووضعت يدها في يدى، لكنها لم تسحبها واغرورقت عيناها الخضراوان بالدموع.

209

وجدتنى مع الرئيس عبدالناصر في حديقة صغيرة وهو يقول:

لعلك تتساءل لماذا قلت مقابلاتنا؟ فأجبته بالإيجاب.

فقال: كلما شاورتك في أمر جاءت مشورتك بالاختلاف كليا أو جزئيا، فخفت أن تتأثر صداقتى لك بهذا الموقف. فقلت: أما أنا فلن تتأثر صداقتى لك مهما اختلفنا.

210

وجدتنى في قهوة «الفيشاوى» وأمامى على بعد غير بعيد الفنانة البالية الموشكة على الاعتزال، فنظرت إليها بشغف، وتلفتت تنظرنى بسماحة وظهرت على شفتيها ابتسامة خفيفة، فقال لى صاحبى: أبشر فلن تخوض معركة الحياة الأخيرة وحيدا.

211

وجدتنى أمام منصة يجلس عليها الزعيم سعد زغلول وإلى جانبه أم المصريين، وإذا برجل يتقدم زاعما أنه الزوج الحقيقى للسيدة ويطلب منها أن تتبعه، وقدم للزعيم أوراقا، لكنه نحاها جانبا وقال له: بينى وبينك القانون والشعب.

212

رأيتنى أتأمل صورة في حجم الكف تجمع زخارفها بين فتى لعله يشبهنى وفتاة تشبه «ب» فقلت: أصبحنا نادرة تحكى وتصور.

213

رأيتنى واقفا أمام معرض مصور الأفراح في حين، ورأيت لأول مرة «ب» عن قرب وبتمهل، فشعرت بخيبة، ولم أفقد الأمل في السلوان.

214

رأيتنى في محطة الترام وقد اكتشفت أننى نشلت ولمحت الصديق أحمد مظهر مسرعا فلحقت به، فأخبرته عن حالى، فقال ضاحكا: وأنا أيضا نشلت، فقلت له: هل إلى العباسية لنجد النقود، فقال لى: إننى أدعوك للتطوع في الفرقة الجديدة من المدنيين التي تعمل مع وزير الداخلية مباشرة وهدفها تطهير البلاد من النشل والنشالين.

215

رأيتنى وسط جماعة من الشبان المعاصرين، ورأيت فيهم واحدا مختل الأعصاب، فتصدت له فتاة منهم، وعاملته بعطف ومودة حتى استرد صحته النفسية، ثم جمع بينهما حب عميق، وأراد أصحابه أن يتأكدوا من شفائه، فاقترحوا علىَّ أن أمثل دور العاشق مع الفتاة، ففعلت، لكنها صدت عنى بأدب، وإذا بى أحبها حقا، وعز علىَّ أن تفضل علىَّ ذلك الفتى المريض، وذات مرة شعرت بمن يعزف نغمة من أنغام الزار، وتراءت لعينى الفتاة وهى ترقص فرقصت معها، حتى استيقظت منهوك القوى، ولكن في صبح يوم جديد.

216

رأيتنى في بيت العباسية أزور أمى، لكنها استقبلتنى بفتور غير متوقع ولا مبرر، ثم غادرت مجلسها ربما لتعد لى القهوة غير أنها ذهبت بلا رجعة.

217

رأيتنى أسير في مظاهرة ملأت الشوارع والميادين وفى مقدمتها رفعت صور مكبرة لأحمد عرابى وسعد زغلول ومصطفى النحاس، وتعالت الهتافات تنادى بدستور جديد يناسب العصر، ولم تستطع قوات الأمن تفريقها، وبدت كأنها مصممة على النصر.

218

رأيتنى في المحكمة مع بعض الزملاء، وقلت للقاضى إننى مختص بالتقييم الفنى، ولا شأن لى بالرقابة، وقال لى مدير الرقابة إنه وحده المسئول عن الرقابة، لكن لا علاقة له بالجانب الفنى، وبدأت المرافعات وأوصى القاضى بأن تمثل الرقابة في جميع اللجان الفنية، كى لا تصدر الوزارة قرارات متناقضة تثير السخرية.

219

رأيتنى رب أسرة كثيرة العدد يعانى مر المعاناة لتوفير الحياة لهم، وأخيرا قررت ربة البيت أن تستغل مهارتها الفائقة في صنع الطعمية لمساعدتى، ووجدت أول زبائن لها في فروع الأسرة ثم الجيران وأخيرا الحى، و«بشرى لنا زال العنا».

220

رأيتنى في قسم الشرطة نائبا عن سكان شارعنا، وقلت للمأمور بأن يخصص لشارعنا جنديا في الليل لكثرة اللصوص، فقال لى إنه سبق أن فعل ذلك في شارع آخر، وقتله اللصوص في ظلمة الليل، فقلت له: اسمح لنا بأن نتسلح دفاعا عن أنفسنا، فقال: في تلك الحال ستكونون أشدة خطورة علينا من اللصوص، فسألته: بمَ تنصحنا؟ فقال: بإحكام إغلاق النوافذ والأبواب وإنارة المصابيح الخارجية.

221

رأيتنى أقرأ السيرة الذاتية لسعد زغلول بقلمه، واستمتعت بكل ما فيها، وإذا بى أرى الزعيم يجلس بكل عظمة فهرعت إلى يده أقبلها، وقلت له: إننى استمتعت بكل كلمة في الكتاب، لكن طبعته قديمة ولا تليق بعظمة الزعيم، واستأذنت في إصدار طبعة جديدة تليق به، فأذن لى، ولما رجعت إلى البيت وجدت زوجتى قد أنجبت توأمين ذكرا وأنثى، فقررت أن أسمى الذكر سعدا والأنثى سعادة. وعادت ليالى الهنا والقلب نال المُنى.

222

رأيتنى أعاصر التغير الكبير، حيث ألغيت الحدود بين الدول ورفع عن المرور أي عوائق تحت مظلة العدل والحرية واحترام حقوق الإنسان، وتجولت بين العواصم ووجدت في كل مكان عملا مناسبا ولهوا ممتعا ورفقاء في غاية العظمة، ثم حننت إلى مصر فرجعت إليها وقابلنى أصدقاء الطفولة، وطلبوا منى أن أحدثهم فقلت لهم: هلموا أولا إلى الحى القديم فنصلى في مسجد الحسين رضى الله عنه، ثم نتغدى عند الدهان، ثم نذهب إلى الفيشاوى فنشرب الشاى الأخضر وأقص عليكم العجائب.

223

رأيتنى أحمل حقيبة السفر الكبيرة أنا وزوجتى وإذا بالمحبوبة «ب» تجىء فتساعدنا، فاستخفنى الطرب ولمست يدها وقلت: لن أنسى هذه اللحظة ما حييت، فقالت لى: بل عليك أن تنساهها وأصارحك بأننى سعيدة مع زوجى وأولادى، فانطفأت آخر شمعة في مصباحى.

224

رأيتنى معها في حديقة الشاى وهى تقول لى: أنت وعدت أن تزور أبى وهم ينتظرونك، فقلت لها إننى عندما علمت بأننى أكبر منها بعشرين عاما تراجعت حتى لا أظلمها، فقالت: لكننى لا أعترض، فقلت لها: أنا لا أستغل البراءة وأظلمك، ومرت أيام عذاب طويلة حتى علمت أن زميلى «أ.ن» عقد قرانه عليها وهو يماثلنى في العمر، وأكثر من ذلك أنه أرمل وأب لبنت في سن الزواج، فتذكرت الشعر الذي يقول:

مَن راقبَ الناسً مات غما

وفاز باللذة الجسور

225

رأيتنى في مكتبى أستقبل فتاة هي قريبة لى من بعيد، وأخبرتنى بوفاة أمها من أسبوع، فتذكرت فترة من الماضى الجميل. وقالت: إنها أوصتنى قبل وفاتها بأن ألجأ إليك عند الحاجة إلى مشورة، فقلت في نفسى: يرحمها الله، آثرتنى على خالها وعمها، فلا خيبت لك ظنك.

226

رأيتنى مع كتيبة من الجنود في مخبأ مغطى بالأعشاب نتحين الفرصة للخروج ومفاجأة العدو، وفى الوقت نفسه نخشى أن يعثر العدو على باب المخبأ، فيسلط علينا غازاته ونموت كما تموت الفئران.

227

رأيتنى جالسا مع المرحوم «ك» في شرفة بيته الريفى تحت ضوء البدر الساطع وفى حضن ليل الريف الساجى، وكان يقول لى: أنت تعلم أننى لا اهتم بالسياسة، وعلى الرغم من ذلك انقض علىَّ زوار الفجر وساقونى معصوب العينين إلى حجرة مظلمة، قضيت فيها شهرا دون تحقيق ولا معرفة لسبب ذلك، ولما عدت إلى قريتى كانت أعصابى قد اختلت ثم كانت النهاية. فقلت له: لقد سار في جنازتك جميع الحرافيش وهم يتساءلون.

228

رأيتنى في الإسكندرية ودخلت بنسيونا أنيقا، وتبين لى أن التي تديره هي حبيبتى، فغرقت في العشق حتى قمة رأسى، فقالت لى لمَ لا نتزوج إذن؟ فقلت متذكرا ما جرى بينى وبينها في العباسية: إننى أخشى إن تزوجتك أن أفقدك. والمرة الثانية وجدت البنسيون مغلقا وقال لى البواب إن المدام رحلت إلى أثينا موطنها الأصلى.

229

وجدتني في مقهى «ريش» مع أصدقاء «ريش»، وكلنا ننتظر بدء الحفل، وجاء أعضاء الأوركسترا حتى اكتملوا عددا وعدة إلا المايسترو، فوضعنى الأصدقاء مكانه، وأدرت الحركة بنجاح، وتخلل العزف صوت أم كلثوم وصوت عبدالوهاب، وغنى الأصدقاء والنادل وصاحب المقهى وفتحت النوافذ التي تحيط بالمقهى، واشتركوا جميعا في الغناء حتى تواصل الغناء بين السماء والأرض.

230

رأيتنى في سرادق كأنه بلا حدود مكتظ بالناس وفى صدره رجل يخطب عن الوحدة، ولما انتهى من خطابه قلت له: لقد رحل سعد زغلول وتلاه مصطفى النحاس فباتت الوحدة أمانة في عنقك.

231

رأيتنى أشاهد إبراهيم باشا وهو يغادر تمثاله ويتنقل من مقهى إلى مقهى متحديا أبطال الطاولة ويغلبهم واحدا في إثر واحد، وعند الفجر ذهب إلى مسجد الإمام الحسين رضى الله عنه، وصلى ثم رجع إلى قاعدته، فشعرت بفخر كبير وحزن عميق.