الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أمل دنقل

الشاعر الراحل الكبير
الشاعر الراحل الكبير أمل دنقل
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
التقيت بأشعار أمل دنقل لأول مرة من خلال دكتور اللغة العربية جابر قميحة فى كلية الألسن.
كان الدكتور جابر يبدو كأنه ولد ليكون مدرس لغة عربية، فهو ضخم الجثة، عريض المنكبين، جهورى الصوت، يزين وجهه شارب مميز، ورغم أنه كان ذا نزعة محافظة واضحة، إلا أنه يعشق أمل دنقل اليسارى، الشيء الوحيد تقريبا الذى كان، وربما لا يزال، يجمع عنب الشام ببلح اليمن، أو اليمين واليسار المصريين، هو كراهية السادات بسبب الصلح مع إسرائيل، فيما عدا هذا فهم يختلفون على كل شيء آخر فعله السادات، من السياسة والاقتصاد حتى ملابس النساء.
المهم أن الدكتور جابر، الذى كان يتمنى أن تسمح له الجامعة بارتداء الجلباب، كان يحلو له أن يتلو على طلبته قصيدة «لا تصالح» لأمل دنقل، ويمتدح صاحبها ويطعن فى سيرة الرئيس المقتول حديثا.
أذهلتنى قوة القصيدة كما فعلت مع الكثيرين. «أترى، حين أفقأ عينيك. ثم أثبت مكانهما جوهرتين. هل ترى؟ هى أشياء لا تشترى»، من بين الصور العديدة التى تضج بها القصيدة الملحمية ذات الشعبية الطاغية، كانت «لا تصالح» مدخلى إلى أمل دنقل، وبحثت عن دواوينه فوجدت الطبعة الأولى من أعماله الكاملة فى مكتبة مدبولى بميدان طلعت حرب، وكان غلافها مزينا برسم بديع للشاعر أعتقد أنه للفنان صلاح عنانى.
لم أحب ديوانه الأول «مقتل القمر»، الذى، يغلب عليه القصائد العاطفية الساذجة، ولكن بداية من «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» يعثر دنقل على مساره، ومصيره، الخاص، الذى سيميزه عن أى شاعر عربى آخر.
لم يكن أمل دنقل شاعرا سياسيا بالمعنى الذى نجده عند محمود درويش أو سميح القاسم أو نزار قبانى أو مظفر النواب أو حتى كما نجد فى بعض أشعار صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطى حجازى، لا يوجد فى شعر أمل دنقل أسماء، أو إشارات إلى شخصيات سياسية معاصرة، ولا إلى أحداث سياسية بعينها، حتى قصيدته «الكعكة الحجرية» التى تدور حول مظاهرات الطلبة عام ١٩٧٢ والمذبحة التى ارتكبت ضدهم فى ميدان التحرير، لا نجد إشارات لأسماء أو أماكن بعينها، ولكن نجد كما فى «لا تصالح» وقصائده السياسية الأخرى «أسطرة» لهذا الواقع، أى تحويله إلى «أسطورة»، ومزجه بالحكايات التاريخية القديمة.
فى قصيدته «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» مثلا، وهى قصيدة معارضة سياسية من الطراز الأول، يعود أمل دنقل إلى حكاية محرر العبيد الرومانى سبارتاكوس، ليتحدث عن فكرة التمرد بشكل عام بداية من فجر وجود الإنسان، وهو يبدأ قصيدته بهذه الأبيات التى لا تضاهى فى قوتها وتمردها.
«المجد للشيطان.. معبود الرياح
من قال «لا» فى وجه من قالوا «نعم»
من علم الإنسان تمزيق العدم
من قال «لا».. فلم يمت،
وظل روحا أبدية الألم».
بالنسبة لأمل دنقل، مثل أى شاعر عظيم، فإن القصيدة لا «تدور» حول موضوع بعينه، ولكنها نفسها تتحول إلى هذا الموضوع.. فقصيدة «سبارتاكوس» ليست عن التمرد، ولكنها هى نفسها تمرد.
أجمل ما كتب أمل دنقل، حسب رأيى وذوقى، وأجمل ما قرأته من شعر باللغة العربية على الإطلاق هو قصيدته «صلاة»، ليس فقط بسبب موضوعها. فى الحقيقة الموضوع لا يعنى شيئا فى الفن، ولكن الموضوع الذى يتشكل حيا نابضا أمام عينيك من خلال كل عناصر العمل مجتمعة.
كل شيء فى «صلاة» بداية من العنوان واستلهام أسلوب وصور ولغة النصوص الدينية، التى توحى بجذور المجتمع البطريركى القمعى ومزجها بصور الحياة المعاصرة مثل «الصحف المشتراة» و«القمصان» المنشاة، وحتى كل كلمة من القصيدة وعلاقتها بالكلمات الأخرى من خلال قافية التاء القوية، مثل «الرهبوت والجبروت والموت... إلخ»، أو التى يغلب عليها حرف الشين مثل «يماشون، يحشون، يعيشون، يعشون، يشون، يوشون... إلخ»، أو حرف السين مثل «خسر، عسر، يسر، وسمك، رسمك... إلخ»، كما لو أن القصيدة كلها لعب بحرفى الشين والسين، أو العرش والسجن، بينما التاء هى الموت الذى يلف الاثنين.
لا داعى للمزيد، وليس هناك كلام أفضل من ترككم مع القصيدة نفسها:
أبانا الذى فى المباحث. نحن رعاياك
باق لك الجبروت
وباق لنا الملكوت
وباق لمن تحرس الرهبوت
....
تفردت وحدك باليسر. إن اليمين لفى الخسر
أما اليسار ففى العسر...إلا الذين يماشون...
إلا الذين يعيشون يحشون بالصحف المشتراة
العيون فيعشون. إلا الذين يشون. وإلا
الذين يوشون ياقات قمصانهم برباط السكوت!
تعاليت. ماذا يهمك ممن يذمك؟ اليوم يومك
يرقى السجين إلى سدة العرش..
والعرش يصبح سجنا جديدا وأنت مكانك. قد
يتبدل رسمك واسمك. لكن جوهرك الفرد
لا يتحول. الصمت وشمك. والصمت وسمك
والصمت- حيث التفت- يرين ويسمك
والصمت بين خيوط يديك المشبكتين المصمغتين يلف
الفراشة والعنكبوت
...
أبانا الذى فى المباحث. كيف تموت
وأغنية الثورة الأبدية
ليست تموت!!