الجمعة 24 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

في بيت "عصفور من الشرق" ٢-٢

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نكمل اليوم رحلتنا فى بيت أديب مصر العظيم توفيق الحكيم.
يقول الحكيم: فى وقت من الأوقات طغى على تفكيرى أمر استبد بى.. وهو السفر إلى باريس مرة أخرى.. ونحن على أبواب الستينيات كما سافرت أول مرة فى العشرينیات لأجدد إلهامى الفنى وأكتب عملا كبيرا.
وسعيت للالتحاق باليونسكو.. معنى ذلك أن أترك زوجتى وأولادى لمدة سنة على الأقل.. وعلى الرغم مما فى ذلك من مشقة للزوجة والأسرة.. إلا أنها وقفت إلى جانبى.. وتوسلت إلى الله بدعواتها أن يحقق لى ذلك..
وسافرت بمفردى.. لأتفرغ لعملى الأدبى والفنى.. ولم أكن متأكدا من السفر.. لكنها بشفافية روحها.. أخبرتنى ذات صباح أننى سأسافر يوم كذا سنة كذا.. كان بالضبط يوم ٥ مارس ١٩٥٩ كما قالت هى تماما!
وكثيرا ما كانت تتنبأ وترى أشياء.. أفسرها بأنها شفافية روح.. لأنها كانت عميقة الشعور الدينى والإيمان بالله.. كثيرة القراءة فى القرآن والكتب السماوية.. مثل الكتاب المقدس بعهديه القديم والحديث.. أى التوراة والإنجيل.
وفى أوروبا.. كانت تسأل عن بيوت الله فيدلونها.. فتدخل وتضيء شمعة للعذراء. وتدعو الله فى خشوع!
وكانت حريصة على الشعائر وخاصة الزكاة.. وكان اعتمادى عليها فيها..
وخاب أملى فى باريس.. لكن زوجتى آزرتنى برسائلها.. وكدت أتم سنة.. فى آخرها اقترحت عليها أن تلحق بى فى باريس لتشاهدها.
وجاءت.. وكانت من أجمل أيامنا هناك.. وظهرت لى زوجتى فى صورة لم أكن أتوقعها منها!
فلم تكن المرأة المصرية التى كانت تصور عادة اللخمة أو التفاهة.. بل على العكس من ذلك.. ذهبت معى إلى متحف اللوفر.. وجعلت تتفحص الصور بكل اهتمام وصبر.. وتلح على البقاء طول النهار!
وذهبنا إلى دار الأوبرا حيث شاهدت أوبرا «فاوست» المأخوذة عن «جوتة» وهى عميقة.. كما شاهدت معى من الكوميدى «فرانسيز» مسرحية من أصعب المسرحيات.. وهى «الحلم» لسترندبرج.. وشعرت أنا نفسى بشيء من الإرهاق فى متابعتها.. وما أن جاءت الاستراحة حتى أردت الانصراف لكى أنام.. أما زوجتى فقد قالت: ألا تبقى لتتابع القسم الباقي؟
فقد كانت مستمتعة أكثر منى مع صعوبة مؤلف مثل «سترندبرج».
وكانت تتحرك فى أرجاء باريس وكأنها تعرفها من سنوات.. وجاء الصيف ورأينا أن نصعد إلى جبال الألب.. ونزلنا فندقا تشرف فيه حجرتنا من جهة على الجبل بقمته المكسوة بالجليد.. ومن الجهة الأخرى على غابة خضراء يمرح فيها بقر فى رقابه أجراس صغيرة.. وجاء يوم ٦ يونيو وهو عيد زواجنا.. فأردت أن أسرها وأحتفل بهذا اليوم. وكان يوافق ربع قرن على زواجنا.. وحادثت فى ذلك مديرة الفندق فاقترحت أن تعد «تورتة» مكتوب عليها «ربع قرن زواج».. وفى الغداء قدمت هذه «التورتة».. كلفنا الفندق أن يقطعها أجزاء.. يقدم إلى كل نزيل من نزلاء الفندق نصيبا عند الغداء.. سر النزلاء بذلك.. ونهضوا فى طابور يقدمون إلى زوجتى الشكر والتهنئة.. ومن بينهم شيخ أمريكى ومعه زوجته.. أعلنا أنهما أيضا سيقلدوننا ويحتفلان بمرور ثلاثين سنة على زواجهما.
وكانت زوجتى سعيدة بذلك.. وكانت أول مرة تجد منى هذا الاهتمام بها.. وأنا أشكر الله الذى هدانى إلى حكمته.. وإلى آيته الكريمة عن «المودة والرحمة».. أبقى عاطفة وأثبت دعامة للحياة الزوجية.
إلى هذا الحد استطاعت زوجة توفيق الحكيم أن تأسر عليه قلبه وروحه.. وهو الذى لم يقل لها يوما - باعترافه - كلمة حب.
لكنه بالتأكيد اعترف صراحة وكتابة بالجوانب الجميلة والنبيلة فى شخصية زوجته.. وربما كانت تلك هى المرة الأولى التى يكشف فيها عن خطاب خاص أرسلته له زوجته عندما سافر إلى باريس.
فقد كتبت تقول له: زوجى العزيز.. لا تعلق أهمية على تاريخ هذا الخطاب..فبالرغم من أن اليوم أول إبريل.. إلا أن كل ما سأقوله حقا وصدقا.. لقد اتفق الناس على الكذب فى أول إبريل وأختلف أنا عنهم اليوم.. وصلنى خطابك العزيز أمس الأول.. وكنت كل يوم أمر على صندوق «البوستة» وأفتحه.. وأحيانا أكون خارجة فأفتحه.. وأعود بعد قليل وأنا متأكدة أن لا شىء بداخله فأفتحه.. يدفعنى أمل واحد هو خطاب منك.. أصبحت حياتى وأعصابى متوقفة على شىء واحد هو خطاباتك.. إن وصول خطاب منك فرحة كبيرة.. نلتف أنا والأولاد حوله ونقرأه بسرور بالغ.. وأسرح أحاسب نفسى.. كيف ارتضيت أن أتركك تسافر؟
وكيف تم ذلك وأنا بهذا الشعور؟ وأعود فأقول إنك لم تتركنا رغبة عندك وحدك.. بل هى رغبتنا وإحساسنا جميعا نحوك ونحو آمالك.. وكل ما أرجوه أن تعود إلينا منتصرا.. وبذلك أكون قد أكملت رسالتى كزوجة محبة مخلصة بجوارك.. أما من ناحية الشائعات.. فآخر شائعة هى أنك موجود فى مصر.. ونازل فى بنسيون.. وأن بيننا سوء تفاهم.. تصور ما يقوله الناس؟ هذه المهاترات ليس لها جواب عندى.. كل ما ساءنى فى خطابك أنك وجدت باريس قد تغيرت.. ولذا أخشى أن تكون قد تضايقت.. وعشمى أن يكون عملك محببا إلى نفسك.. فأنت لم تسافر إلى باريس للفسحة بل لهدف معين.. وكلنا فى غاية الشوق إليك.. وأخيرا قبلاتى التى لا تعد ولا تحصى.. زوجتك المخلصة «س».
هكذا كانت العلاقة بين «عدو النساء».. وزوجته!
أعطته سعادة لم يكن يحلم بها.
أعطته دفء الأسرة عزوة الأولاد.
وكانت أحن وأرحم الناس به وعليه.
ربما كان أصعب ما كتبه توفيق الحكيم.. هو ذلك المشهد الأخير الذى فارقت فيه زوجته الحياة وتركته وحيدا.
قال: جاء يوم الوفاة ٢٩ إبريل ١٩٧٧ الموافق ١١ جمادى الأولى ١٣٩٧.. الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر.. كان يوم جمعة.. وكنت أنا فى الخارج مع أصدقائى..
قدموا لها الغداء..
لكنها رفضت تناوله حتى أعود وتراني
وعدت فى الساعة الثالثة.. فطلبت الغداء وأكلت.
ثم همست فى أذني: أنت.. حاتحزن علىّ؟
ثم شهقت مرتين: آه.. آه وأسلمت الروح.
ماتت وهى غير واثقة من شعورى نحوها. فهى طوال حياتنا الزوجية لم تسمع منى لفظ «حبي». وبعد أيام نهضت ابنتى «زينب» من نومها وهى ترقد قائلة إنها رأت أمها رؤية العين.. تظهر لها ثم تركتها واتجهت إلى حجرتى.. قائلة إنها تريد أن تلقى علىّ نظرة.. لأنها الآن.. الآن فقط عرفت أنى أحبها.