الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

الحل الناجع: تجفيف المنابع!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا يكفى للفوز في المعركة الطاحنة التي تدور رحاها الآن على أرض مصر، من أقصاها إلى أقصاها، الاقتصار على الجهود الضخمة التي تبذلها القوات المسلحة من جهة، وقوات الشرطة وأجهزة الأمن، من جهة أخرى، على ضرورة هذه الجهود، وأهميتها الفائقة، وعلى الرغم من التضحيات الجسيمة والعظيمة التي تبذلها هذه الجهات، للقضاء على دابر الإرهاب، وإنقاذ مصر: الوطن والشعب والحضارة والمستقبل، من يد الغدر التي كادت أن تفتك بها وبهم، لولا ستر الله، وعبقرية الشعب، وانحياز الجيش للأمة، والدور المشكور لجهاز الأمن المصري، والتضحيات الكبيرة التي قدّمها الجميع عن طيب خاطر.

ومع الانحسار النسبي للوجود الإرهابي في الشارع، وتراجع وتيرة ومستوى الاعتصامات والمظاهرات العدوانية لجماعة “,”الإخوان“,” وأذرعتها الإرهابية، فإن الاطمئنان إلى أن الأمر قد عبر أفق مصر، كسحابة صيف، مضت إلى حال سبيلها وانتهىت، ثم الركون إلى الراحة والاسترخاء، توهمًا أن الخطر قد زال إلى الأبد، كعادتنا التي لم تتغيّر في الظروف الشبيهة، حتى تفجأنا الأحداث، ونستيقظ على وقع كارثة أخرى جديدة، لا يصلح أن يكون منهجنا لمعالجة مثل هذه الأزمات الخطيرة التي زلزلت الوطن، وكادت أن تعصف بأمنه واستقراره، خصوصًا أننا نواجه، هذه المرّة، عدوًّا من نوع آخر، فهو عدو من بني جلدتنا وإن كان لا ينتمي إلى تاريخها وحضارتها، وهو يعيش على أرضنا، وإن كان بصره يتجه إلى خارجها، وهو يتكلم بلساننا، ويلبس أرديتنا، ويدب في أسواقنا، وإن كان يستبطن الكُره لنا، وينتوي الانتقام منا!

وفي مواجهة مثل هذه النوعية الإجرامية من الخصوم والأعداء، والتي هدّدت، ونفّذت تهديداتها، بأن تحيل أرض مصر إلى خراب، وتوعّدت، وحقّقت وعودها بأن تُسيل أنهار الدماء في شوارعها، لا بد -في لحظة- من اللجوء إلى الأساليب الأمنية، حتى يُقطع الطريق على مؤامراتهم قبل أن يستفحل الخطر ويستحيل تصحيح الأمر، مثلما يواجه الطبيب البارع انتشار ورم سرطاني في جسد المريض.

حينها لن يكون لأي نوع من المسكّنات قيمة أو جدوى، ولا يصبح أمامه من حل إلا باللجوء إلى مشرط الجرّاح لإنقاذ المريض من الموت المحقق.

وأي حديث آخر لرواد الصالونات، أو أولئك الذين يسددون فواتير الجهات الممولة في أمريكا والغرب، أو مدّعي الثورية الطفولية الفارغة، أو المتحولين من موقع لآخر، خدمة لمشروع الاجتياح الإرهابي لما يسمّى “,”مشروع الإسلام السياسي“,”، أو أبواق الطابور الخامس من صنائع أعداء الوطن، وعبيدي رشاواهم، فهو لغو لا أكثر، ولا يُعبِّر إلا عن عقول فارغة، أو كارهة، أو موجهة، أو مُغرضة.. لا يجب الالتفات إلى عوائها، أو الوقوف عند انحطاط ادعاءاتها، أو التردد أمام زيف مقالها، أو استنزاف الجهود في الرد على انحدار مضمون خطابها!

ومع صحة كل ما تقدّم، فإن تصوّر أن الحل الأمني وحده، كفيل باجتثاث الخطر من جذوره، وقمين بأن يُبرّئ الجسد المصري العليل من أمراضه، ويُعيد إليه الصحة، ويمنحه العافية، هو وهْم ما بعده وهْم، وخطأ لا يوازيه خطأ.

ذلك أن هذه النوعية من الأعداء، والذي يمثل البُعد العقائدي، أو“,”الأيديولوجي“,” ركيزة أساسية من ركائز التجنيد والتعبئة والتوجيه في تشكيلاتها وتنظيمانها، والمبنية على مبدأ “,”البيعة“,” ومفهوم “,”السمع والطاعة“,”، أي الالتزام بالنواهي والأوامر الصادرة من المرتبة الأعلى، التي يتربع على قمتها “,”مكتب الإرشاد“,”، و“,”المرشد العام، دون أدنى فرصة للحوار أو إعمال العقل، لا يمكن أن يكون “,”الحل الأمني“,”، رغم أهميته القصوى، وحسب، السبيل للانتصار عليها.

هو شرط ضروري، ولازم، لكنه وحده غير كافٍ. وهو سلاح لاغنى عنه، لوقف التداعي، ومصادرة الخطر، غير أنه يحتاج بالضرورة إلى “,”حزمة“,” من الإجراءات المتكاملة، المتوسطة والطويلة الأمد، والمتناغمة في لحن واحد، يُكمل بعضه بعضًا، ويبني كل قسم فيه على ما تحققه الأقسام الأخرى، وبحيث ننتهي إلى تحقيق الغاية المبتغاة: تجفيف منابع الإرهاب، وتطهير الوطن من مرضه العضال!

إذ لا بد من معالجة “,”الأساس“,” الاجتماعي والفكري الذي سمح بتغوّل هذه الاتجاهات، وانتشارها على هذا النحو المخيف: الفقر والجهل وبؤس الأحوال والتردي الشامل لأحوال المعيشة، وهو ما مثّل البيئة الحاضنة للإرهاب والعنف وثقافة الغضب والعدوانية والتطرف!

وهناك أربعة محاور رئيسية، لا بد من علاجها، فضلًا عن عشرات التفاصيل الأخرى التي لا تخفى على متابع، وهذه المحاور هي:
أولاً: على مستوى الإطار الدستوري والفقهي والقانوني، لا بد أن يتضمن “,”دستور الثورة“,” القادم، والذي ستبدأ جمعيته الخمسينية الجديدة عملها بعد أيام، نصوصًا قاطعة تؤسس لدولة مدنية ديمقراطية حديثة حقًّا، نصًّا وروحًا، وبأبعاد هذه الديمقراطية السياسية والاجتماعية والثقافية، تقضي باحترام الحريات العامة والشخصية، وحرية الفكر والاعتقاد، دون موانع أو قيود، ولا بد أن يتضمن أيضًا نصوصًا واضحة تُجرّم وتمنع تشكيل أحزاب على أساس ديني، أوخلط الدين بالسياسة، والاتجار بالشعارات الدينية، واستخدام دور العبادة في التجييش السياسي، والتحريض على أتباع الديانات الأخرى.. إلخ.

كذلك يجب أن يتبنى الدستور الجديد المفهوم الأوسع، والأكثر رحابة للشريعة السمحاء، الذي نُص عليه فى دستور 1971، وأن يتبرّأ من نص المادة 219 الذي يفرض على المجتمع تبنّي المفهوم الوهابي الأكثر تعنتًا وتشددًا في تفسيرها، وقد نشر الأستاذ الدكتور سعد هلالي، أستاذ ورئيس قسم الفقه المُقارن بجامعة الأزهر، دراسة بالغة العمق، امتدت على كامل صفحتين من جريدة “,”الوطن“,”، عدد الأحد 1 سبتمبر 2013، بعنوان “,”لهذه الأسباب يجب حذف المادة 219 من الدستور؟!“,”، تضمنت كل الأسانيد الفكرية والفقهية التي تُحتّم نبذ هذه المادة، أقترح أن تكون إحدى الوثائق الموضوعة أمام تأسيسية الدستور الجديد للإفادة منها.

ثانيًا: على مستوى العمل في أرض الواقع، على الدولة المصرية أن تبدأ في وضع خطة محددة المعالم: جغرافيًّا وزمنيًّا وماليًّا، تتضمن رؤية واضحة، وتفصيلية، وقابلة للتنفيذ، تستهدف إحداث تطوير شامل فى حياة عشرات الملايين من مواطني الصعيد (الجواني)، والقرى الريفية الفقيرة، ومناطق الفاقة والحرمان، والعشوائيات، وحزام البؤس الذي يُحيط بأبراج الأغنياء من كل جانب.

وتبدأ هذه المسيرة بالاعتراف، عبر نص واضح وقاطع في الدستور القادم، بأن كل مَن وُلد، ويُولد، على هذه الأرض المصرية المباركة، له حق الحياة الحرة الكريمة، بأجلى وأصفى معانيها، وأن قيادة الدولة، تُلزم الحكومة، بموجب وجودها، بالتحقيق الفعلي لهذا الأمر، مصداقًا لشعار الثورة العظيم، الذي تستمد الحكومة وجودها من شرعيتها: العيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية.

ثالثًا: ومن منظور استراتيجي لخدمة قضية مواجهة الإرهاب، وقضية التنمية والتقدم ككل، فمن الضروري للغاية، أن يبدأ العمل فورًا، على محو أمية نحو أربعين في المئة من أبناء شعبنا، حُرموا من نعمة إدراك حقّهم الإنساني في نيل قسط مناسب من العلم والمعرفة، بفعل ظروف قاهرة، وهو ما أهدى جماعات التكفير والإرهاب والتطرف بيئة نموذجية لبث سمومها، وخداع ملايين البسطاء، فالجهل هو الأرضية المواتية لزرع مفاهيم التكفير والمتاجرة بالدين والعنصرية ورفض الآخرين والتقوقع على الذات وكراهية الحياة، وهناك دول عديدة، نجحت في التخلص من هذه الوصمة في بضعة أشهر. لكنها كانت جادة، وامتلكت الإرادة والعزيمة على مواجهتها، وانتصرت عليها.

رابعًا: وعلى مستوى صناعة الوعى، وصياغة الإدراك الجمعي للأمة، فهناك مهام عاجلة وخطيرة، وهي مهام يجب أن يُشارك فيها بفعالية كل مؤسسات الدولة والمجتمع: الأزهر، والكنيسة، والإعلام، والثقافة، والفن، والتعليم، والإعلام، والقضاء، والمجتمع المدني.. إلخ، بهدف تبصير المواطنين بجرائم دعاة الفتنة والتطرف والتكفير، ومن أجل طرح الرؤى المنفتحة للدين، وللرد على مزاعم وأكاذيب دعاة الفتنة، وكشف مخططاتهم وعمالتهم وطبيعة علاقاتهم المشينة بقوى الاستعمار والصهيونية والتبعية فى الخارج والداخل.

هذه بعض الأفكار، التي تسهم فى صياغة “,”برنامج لمواجهة الإرهاب“,”، وتساعد في تحقيق الانتصار عليه في معركة الوجود ضده، وهي معركة ستنتصر مصر فيها حتمًا، ما دامت مصر: شعبًا ودولة، موحدة الوعي والإرادة، وعازمة على الفعل، من أجل تحقيق أهدافها النبيلة، وبناء مجتمع العدل والحرية.