الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

صيحات التجديد الديني ( 54 )

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وعن موقفنا الفكرى من التراث ومن قضية تجديد الفكر الدينى نقرأ لجابر عصفور "نحن قوم تشبهنا ثقافتنا التى هى صورتنا ومرآة أحوالنا ، ولو نظرنا إلى أنفسنا فيها وجدنا إننا نسير إلى الأمام حقا ، ولكننا نسير وأعيننا فى اقفيتنا ، لا نرى الطريق الذى يمضى فيه حاضرنا ، ولا نحاول أن نرسم أفقا خلاقا لمستقبلنا الذى يشغلنا عن الوعى به مرضنا بماضينا فنحن قوم مهووسون بالماضى لا نرى الا من خلاله ، ولا نقيس إلا عليه ، ولا نقبل اى جديد إلا إذا تشابه مع بعض ما فيه وما كان على هدى منه . وحتى القوانين الجديدة التى نسنها أملا فى الإصلاح ، لا نصدرها إلا بعد أن نتأكد ونؤكد للجميع أنها على سند من هذه الحادثة ، أو تلك فى الماضى" [صـ181] .
وهكذا ينتصب جابر عصفور معترضاً على اغلب العقل القائم فى زماننا فى القرن الحادى والعشرين ، ويحتج علينا مؤكدا إننا أدرى بشئون دنيانا وان القياس يجب ان يكون على الحاضر المتطلع للمستقبل أملا فى إصلاح حاضر يصفه دون التواء أو محاذرة بأنه معوج". ويلح جابر عصفور علينا ويدعونا إلى تعديل بوصلتنا ، فليس من المعقول كما يؤكد "أن نتطلع إلى مستقبل لا نرى من غيومه القائمة إلا ما يعيدنا إلى مشرق ماضينا ، فالماضى هو البدء والمعاد ، والنقطة الذهبية التى كلما بعدنا عنها إزددنا نقصا وسوء حال ومهانة وانحدرنا مع زمن مقدور عليه النقصان كلما مضى بنا أو معنا إلى الأمام ، ولذلك يبدو الماضى فردوساً مفقودا نمتلئ بالحنين إليه ، ونصدقه تعويضاً عن بؤس حاضرنا ، وهو أن أيامنا وغموض مستقبلنا الذى لا نرجو له إلا أن يكون عوداً على بدء" [صـ181] .. وهو ينعى على مجتمعنا افتقاده للرؤية العلمية ويؤكد "إن العلم لا مكان له فى دنيانا التى تستمر ثقافتنا دائماً على شاكلتنا . فالعلم احتمالات تبدأ من وقائع حاضره ملموسة أو تمضى إلى احتمالات مستقبلية بالضرورة" والعلم أختراق لآفاق المستقبل وانقطاع عن الماضى وعن الحاضر الذى لم يعد يدفع إلى الأمام ، العلم مغايره ، تجريب ، مغامرة ، خلق ، قياس على غير المثال ، أضافه كمية وكيفية تقلب المسار ، وكلها صفات لا تعرفها ثقافتنا الغالبة والتى لا تزال تفضل المعروف والمألوف وترضى بالمتاح القليل ، وتقبل كل ما يحدث لها أو حولها ، كأنها معلقة بعقارب الزمن التى لا تتحرك إلا إلى الوراء ولا ترى إلا بالأعين المثبتة فى الاقفية ، وهذا هو السر فى تعلقنا المرضى بالتراث : الحفاظ على التراث ، إحياء التراث ، بعث التراث الذى جعلنا خير أمة أخرجت للناس ، شعارات نلوكها ونكررها ، ونلح عليها ناسين أن الإلحاح على التراث هو إلحاح على ماض إنتهى ولن يعود ، وأن هوس العودة إليه هو عملية تعويض نفسى عن واقع مهزوم وحاضر متخلف ، فكلما إشتدت علينا وطأة الحاضر هربنا إلى الماضى ، إلى التراث" وهكذا وفيما تستعر المعركة حول التراث وينقسم المهتمون بالأمر بين من يرون "كل خير فى أتباع من سلف" والأخذ بكامل ما أتى فى كتبه ، وبين من يتخذون موقفاً وسطا فيقولون نأخذ من التراث ما هو معقول ومستساغ ونرفض ما يكون الالتزام به رفضاً للعقل والتزاماً بما يشبه الجنون فى بعض الأحيان ، يأتى جابر عصفور ليقلب المائدة على الطرفين متمسكاً بالعقل وحده وبالمستقبل فقط . وإذ نمضى مع جابر عصفور ورأيه الواضح القاطع فى مسألة التراث يتوقف ليصرخ فى وجوهنا جميعاً "إننا لا نتوقف لنسأل أنفسنا أى ماض والى أى حقبه نتجه هل إلى زمن الرسالة التى سرعان ما تناهبتها مصالح البشر، فمضت فى تاريخ لم يخل من الدم والقمع والظلم والخروج على مبادئ الإسلام التى ظلت تغترب بين أهلها ، وتحمل من التأويلات ما يحقق مصالح الفرق منذ زمن الفتنة الكبرى أو منذ موقعه الجمل ، ولذلك تحول الإسلام الواحد إلى إسلامات عديدة وتعددت الفرق الضالة فى غياهب الماضى التى لم نجد فيها حقاً فرقه هادية مهدية إلى اليوم ، فالكل يزعم النجاة ، ولا يعلم إلا الله من الناجى حقاً" [صـ182] .
وأتوقف لأقرر وبأعلى صوت أننى على قدر ما قرأت فى تاريخ المسلمين من بدء الرسالة الى اليوم لم أجد موقفاً من التراث أجرأ وأوضح وأكثر التزاماً بالعقل والمنطق من هذه العبارات الشجاعة التى نشرها جابر عصفور فى مقاله الذى نشره فى 22-2-2008 . وأهم ما فى هذا الموقف هو أن جابر مضى بالخط إلى استقامته فقد أمسك بعنق التيارات السلفية ومنها جماعة الإخوان الإرهابية وتمسكها بموقف الحنابلة ، وبمنهج الاستسلام للمعطى الوهمى الذى دفع علماء السلفيين إلى القول بأن لا علم حقيقى إلا علم السلف وما دونه هو مجرد بدع ، فضعفت مناعة الأمة الإسلامية واجتاحتها جحافل التتار والمغول والصليبيين ووصل الأمر بشيوخ السلفيين فى مصر أن أفتوا بأن يواجه المسلمون جيوش الحملة الفرنسية برماح مرفوع عليها المصاحف .. ثم "وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" فحصرهم جنود الفرنسيس ببنادقهم دون عناء .
.. ولم يكن كل ما سبق سوى بضعه أزهار أتينا بها من واحدة من حدائق جابر عصفور .. فطوبى له .